يمكن القول إن الإدارة العميقة للنظام الإيراني، استطاعت نقل المعركة على السلطة، وتحديداً ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، من صراع بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ، إلى معركة داخل التيار أو المعسكر الإصلاحي، بغض النظر عن الصراع القائم داخل المعسكر المحافظ الذي لا يسمح له بأن يخرج عن إرادة وقرار هذه الإدارة العميقة، التي تحاول توظيفه من أجل الإيحاء بوجود مساحات من حرية القرار والتوجه داخل هذا التيار، في ما يتعلق برؤيتها حول مواقع القرار في هرمية النظام والجهة الأقدر على اجتراح المخارج للأزمات التي تواجهها البلاد على المستويين الداخلي والخارجي.
وإذا ما استطاعت إدارة النظام السيطرة على الخلافات داخل المعسكر المؤيد لها (المحافظون)، فإن المعسكر الإصلاحي بكل أطيافه لا يبدو أنه يمر في حالة صحية تسمح له بتكريس نفسه منافساً حقيقياً وقادراً في هذه الانتخابات، التي تمهد لعودته إلى دائرة الفعل والتأثير على الحياة السياسية. فهو لم يستطع حتى الآن حسم خياراته حول الشخصية القادرة على حمل مشروعه في الانتخابات المقبلة في وجه التيار المحافظ ومرشحه.
الخيارات الرئاسية
حالة من التخبط يعيشها التيار الإصلاحي في تحديد خياراته الرئاسية، التي يراهن عليها في إظهار حجم تمثيله الشعبي أو موقعه على خريطة السلطة داخل النظام، أو كشريك لا يمكن تجاوزه في رسم السياسات الداخلية والخارجية للنظام. وهو إذ يراهن على إمكانية النفاذ من خلال التعددية التي تظهر داخل التيار المحافظ المنافس، مستفيداً من محاولة كل جناح من أجنحته الاستئثار بموقع رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، فإنه يدرك جيداً (أي المعسكر الإصلاحي) أن قيادة النظام لم تلجأ إلى حسم خياراتها حول شخصية الرئيس المقبل، وأن ما يحصل داخل المعسكر المحافظ هو مجرد لعب أو تنافس في الوقت الضائع، بانتظار تبلور المعطيات الداخلية والخارجية التي ستلعب الدور الرئيس في تحديد اتجاهات القرار لدى هذه القيادة حول موقع الرئاسة والشخصية، التي من المفترض أن تقود السلطة التنفيذية وعملية التفاوض مع المجتمع الدولي والإدارة الأميركية المتجددة أو الجديدة، التي ستتولى مقاليد القرار في البيت الأبيض.
حجم الإرباك داخل التيار أو المعسكر الإصلاحي وصل إلى أعلى مستوياته، وبدأ يكشف عن حجم الاختلافات والتناقضات في التوجهات بين قواه وأجنحته. ولعل أبرز مؤشر على هذه الاختلافات، هو الانقسام الحاصل بين الجناحين المعتدل والإصلاحي الراديكالي بشأن الاستمرار في تبني المواقف الداعمة والمؤيدة لخيار وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية، ومحاولة التنصل من السياسات الاقتصادية والمالية، التي اعتمدتها حكومته في إدارة الأزمات الداخلية، وما انتهت إليه من آثار سلبية طالت القواعد الشعبية المؤيدة لهذه القوى. إذ خلقت حالة من عدم الثقة عبرت عن نفسها بالعزوف الشعبي الواسع والكبير عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي سمحت للتيار المحافظ بالتحكم في مسار نتائجها وتشكيل مجلس بطابع محافظ لا مكان فيه للصوت الآخر.
العودة إلى القواعد الشعبية
الابتعاد عن روحاني ومحاولة الإصلاحيين العودة إلى قواعدهم الشعبية واستحضار الخطاب التصعيدي في مواجهة الإدارة العميقة للنظام، يكشفان عن حجم الشعور لدى هذا التيار أو المعسكر بالأضرار التي لحقت بمواقعه الشعبية. فهو بات غير قادر على تحريك الشارع، وإقناعه بالعودة إلى صناديق الاقتراع لفرض النتائج التي تخدم مصالحه ومصالح ناخبيه. وهذا ما يزيد من مخاوف هذا التيار من إمكانية خروجه الكامل من دائرة القرار في السلطة التنفيذية، إذا ما كانت المشاركة الشعبية بالمستوى نفسه الذي شهدته إيران في الانتخابات البرلمانية، التي تعني حتماً أن النتائج في الانتخابات الرئاسية، بغض النظر عن الشخصية التي ستمثل الفريق المنافس، ستكون في صالح التيار أو المعسكر المحافظ والنظام. لذلك، عمد التيار الإصلاحي إلى تصعيد خطابه والتوجه إلى المرشد الأعلى. وكلام مساعد وزير الداخلية الأسبق، وأحد أبرز قيادات التيار الإصلاحي، مصطفى تاج زاده يشكل نموذجاً عن ذلك، بما فيه من حديث مباشر عن المخاطر التي تحدق بإيران ونظامها، إذا استمرت سياسة الإقصاء والاستبعاد للقوى والأحزاب المعارضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أزمة التيار الإصلاحي لا تقف عند حدود الموقف من أداء روحاني الداخلي وحجم الخسائر السياسية، التي لحقت به جراء الدعم والشراكة التي قامت بينهما في السنوات الثماني التي تولى فيها روحاني قيادة القرار التنفيذي وإدارة السياسات الخارجية. بل تتعداه إلى الصف الداخلي والانقسام حول القيادة المحورية لهذا التيار، التي كانت معقودة بلا منازع للرئيس السابق محمد خاتمي، والتي يرى الإصلاحيون الراديكاليون أنها لم تعد تصلح في المرحلة المقبلة التي تتطلب مواقف أكثر تشدداً، والدخول في مواجهة واضحة وصريحة من أجل استعادة المواقع الشعبية والمنافسة وخريطة القرار في آليات النظام، من خلال العمل على تجديد الخطاب الإصلاحي وبلورة مشروع سياسي جديد يسمح بإعادة ترميم الصورة الشعبية في إطار رؤية تساعد على تلبية المطالب المعيشية، والحفاظ على موقع إيران الدولي والانفتاح على الخارج بما يحفظ دورها في منطقة غرب آسيا.
حجم الإرباك داخل التيار الإصلاحي يكشف الترهل الذي وصل إليه الخطاب الإصلاحي، الذي يقف متردداً بين التمسك بسقف الالتزام بمندرجات الدستور التي تساعده على الاستمرار في الحياة والتعايش مع النظام وامتلاك الحق بالمشاركة في حدها الأدنى، وبين الذهاب إلى خيار الحسم والمواجهة التي تدعو إلى التغيير الجذري في طبيعة النظام، بما فيها من مخاطر تفتح مستقبل استقرار النظام على المجهول. إلا أن هذا الجدل والتردد يؤشران على غلبة التهدئة، ومحاولة البحث عن مخارج وسطية تساعد في تأمين حضور ولو خجول داخل آليات النظام، بانتظار ما يمكن أن تنتجه التطورات الداخلية والخارجية، وليكون الخيار الإنقاذي البديل، إذا وصلت الأمور إلى مرحلة تهديد أساس النظام واستمراريته.