حين يبدأ أحدهم في تعلم لغة جديدة، فإن أول ما يسأل عنه على سبيل التفكه "كيف أقول أحبك؟"، أو "بكم هذا؟" لشراء أبجديات الحياة في مكان غريب أو ما شابه. أما أن تكون الكلمتان الحيويتان والمصيريتان والمفصليتان هما "اضرب" و"الساعة الثانية"، فهذا هو الفريد والغريب، والمثير في الأمر.
الإثارة التي ضربت أرجاء جهات سيادية في مثل هذه الأيام قبل 47 عاماً بالتمام والكمال غير مسبوقة. بل سمة من سمات العمل في كواليس الجيوش، لذلك فإن إثارة كلمتي "اضرب" و"الساعة الثانية" اللتين شكلتا عصب حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، كانتا من النوع الفريد الذي قلما يتكرر في كواليس الجيوش.
البساطة سر الغرابة
الجيش المصري في أشهر ما قبل حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 كان يدرس الإمكانات والبدائل المتاحة لإبلاغ الأوامر والتعليمات، وتبادل المعلومات والإخباريات بين القيادات والضباط. ولأن الحرب خدعة، فإن الشفرات المعروفة تظل عرضة للاختراق وفك الأكواد، لأن أول ما يفكر فيه العدو هو التلصص على رسائل الخصم والتعرف إلى ما يدور في دهاليز صنّاع القرار، لهذا التفت قادة الجيش المصري إلى الفكرة العجيبة الغريبة التي طرحها أحد الجنود، لتبدو وكأنها شبه مستحيلة، بسبب إفراطها في البساطة، وهو سر غرابتها في آن واحد.
بطل الفكرة الغريبة هو الجندي المصري النوبي أحمد إدريس، الذي حصل على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية الأزهرية عام 1952، بعدما ترك قريته "توماس وعافية" بمركز إسنا في محافظة الأقصر جنوب مصر ليحصل على قسط من التعليم في القاهرة. عاش الصغير مع أخيه الأكبر، الذي كان مقيماً في منطقة "حدائق القبة" بالقاهرة، حتى حصوله على شهادته الابتدائية، وبدلاً من أن يكمل تعليمه، كانت ثورة 1952 قد تركت آثارها الاجتماعية والمعنوية على الجميع بمن فيهم الفتى الصغير. أصر إدريس على الالتحاق بالكيان، الذي ظهر منه الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو (تموز) عام 1952، وهو ما تحقق بالفعل بتطوعه في الجيش وانضمامه بعد فترة التدريب لقوات حرس الحدود.
معضلة الشفرة
تركيبة الجندي الشاب إدريس كانت محملة بآمال ثورة يوليو (تموز) العريضة، وتفاصيل ما جرى في عام 1948، وحماسة وأمل تجاه المستقبل. وقادته الصدفة إلى مناقشة بين ضباط حول معضلة الوصول إلى شفرة للتواصل يصعب فكها من قبل العدو، إضافة إلى اجتماع عسكري قبل الحرب بعامين عن معضلة الشفرة!
يحكي "الحاج أحمد"، البالغ من العمر 83 عاماً، لـ "اندبندنت عربية" في حديث طويل عن المعضلة التي حلها بكلمتين مصحوبتين بضحكة بريئة، قالهما لقائده: "اللغة النوبية". "قلت له اللغة النوبية هي الحل. تكون هي لغة الإرسال، يحاول العدو فك شفرتها، يجد نفسه أمام لغة بلا أبجدية موثقة". ويحكي كيف أن قائده أبلغ الفكرة لقادته الذين قالوا: "هاتوا الصول ده".
وشرح الجندي أحمد إدريس الفكرة أمام القادة، الذين أبلغوها بدورهم إلى الرئيس الراحل محمد أنور السادات. يقول إدريس إنه عرف أن السادات أمر بالتكتم الفوري على الفكرة، وعدم التفوه بكلمة عنها وإلا تعرض الجميع للعقاب الشديد. مرت ساعات قليلة قبل أن يجد الجندي الشاب نفسه مقيداً بـ "كلبشات حديدية" متوجهاً مع عدد محدود من الضباط إلى مكان ما لم يتم الإفصاح عنه، في جو يحيطه الصمت القاتل.
يقول، "كنا في أبو صوير بالإسماعيلية، ووقتها لم يكن يمر يوم من دون أن يبلغ الأهالي عن شخص هنا أو هناك بأنه جاسوس. القيود الحديدية أصابتني بصدمة وقلق وخوف. الشيء الوحيد الذي فكرت فيه هو أن يكون أحدهم قد اتهمني بهذه التهمة البشعة. بعد ساعات قليلة وجدت نفسي بالقرب من قصر الاتحادية في مصر الجديدة، ومنه إلى بيت الرئيس السادات. هنا أخبرت نفسي أنني حتماً انتهيت. قادوني إلى غرفة مكتب الرئيس الراحل، وأخبروني أنه في اجتماع مع قادة الجيش، وأنه سيأتي ليقابلني ما إن ينتهي من الاجتماع. تحول الشعور بأنني ميت إلى يقين أن عشماوي (الاسم الذي يطلقه المصريون على الضابط الذي ينفذ أحكام الإعدام) سيدق الباب في أي لحظة لينفذ حكم الإعدام فيّ. مرت ساعة ونصف، وأنا جالس على مقعد، لكنها مرت علي كدهر كامل. ثم دخل الرئيس الراحل حاملاً عصاه تحت إبطه وغليونه في اليد الأخرى، فانتفضت واقفاً وأديت التحية العسكرية، فما كان منه إلا أن ربت على كتفي وقال لي: اقعد يا بني! فتسلل إليّ شعور خافت بالاطمئنان".
لحظات فارقة
يستطرد أحمد إدريس في سرد الذكريات، التي ثبت في ما بعد أنها لحظات فارقة في عمر مصر والمنطقة العربية. يقول إن الرئيس الراحل ظل يتحدث معه مدة 45 دقيقة عن أحواله، وإن كان متزوجاً وأطفاله وتعليمهم، وكيف يعيشون، وماذا يقول الناس في الشارع، وفجأة سأل: إيه حكاية اللغة النوبية؟
شرح إدريس فكرته، وما إن انتهى حتى غرق الرئيس الراحل السادات في موجة ضحك هستيرية أعادت الرعب مجدداً إلى قلب الجندي الشاب الذي انتفض واقفاً مجدداً وسأل الرئيس: أنا قلت حاجة وحشة يا ريس؟ فرد الرئيس: "لا! أضحك لسبب في نفس يعقوب".
أسفرت نفس يعقوب ولحظات الضحك الهستيري عن مفاجأة كبرى. وفي خلال أيام معدودة، تم جمع 344 جندياً مصرياً نوبياً على دراية تامة باللغة النوبية، وأصبحت كلمة السر في شفرة الحرب وما قبلها وما بعدها. اللغة غير الموثقة كتابة والمنقولة من جيل إلى جيل شفاهياً، تم اعتمادها سراً للشفرة الجيش المصري في حربه الجاري التخطيط لها آنذاك.
الفكرة غريبة جداً. فلم يحدث من قبل أن لجأ جيش نظامي، له عتاده وعدته، وأنظمة الشفرة المعقدة والمتطورة، إلى لغة اعتمدت عبر مئات السنين على النقل والتواتر الشفهيين، بمعنى آخر لا توجد سجلات لها تمكن أحدهم من اللجوء إليها، ودرسها وفهم أبجديتها وترجمتها. بمعنى ثالث، لا توجد مرجعية للغة يمكن الاستناد إليها لفهم الرسائل التي يتم تبادلها باستخدام كلماتها وعباراتها.
البطيخ العائم
يتذكر أنه حين سئل من المحيطين به في الجيش عما جرى في اللقاء، قال إن الرئيس السادات أراد أن يسأله عما جرى بعد نقل النوبيين من بيوتهم عام 1964 لبناء السد العالي، وهو الرد التمويهي الذي لجأ إليه للحفاظ على السرية.
وبسرعة شديدة وحنكة بالغة، تم تدريب 344 جندياً نوبياً، وجميعهم "ضباط صف" على أجهزة اللاسلكي الصغيرة. وبعد التدريب على الأجهزة، إضافة إلى تحديد الكلمات النوبية التي سيتم إطلاقها على الدبابات والجنود والمدرعات والأوضاع كلها بشكل عام، كان الجنود يسبحون في القناة ليلاً، وكل منهم يرتدي على رأسه نصف ثمرة بطيخ مفرغة، حتى اكتسبوا اسم "البطيخ العائم". انتابهم قلق وخوف في البداية من أن يكتشف العدو الإسرائيلي أمرهم فيقعون أسرى أو قتلى، بينما كان مكان الإقامة النهارية صهاريج المياه التي تتجمع فيها مياه الأمطار التي تهطل في فصل الشتاء. ومهمة الجنود وقتها كانت جمع المعلومات الخاصة بأعداد الجنود الإسرائيليين ومعداتهم العسكرية وأعدادها التقديرية، فمثلاً المدرعة تتسع لعدد معين من الأشخاص، ويوجد 20 مدرعة، مما يعني أن العدد المقدر للأفراد كذا، وهلم جرا.
تمساح وثعبان
ثم يأتي دور النشاط الليلي لإرسال المعلومات. هنا يوجد 20 "أولوم" أي تمساح باللغة النوبية والمقصود بها دبابة، و30 "أسلانغي" أي ثعبان، ومعناها عربة مجنزرة، وهكذا. أما التعيينات من طعام وشراب، فكان يمدهم بها مصريون من بدو سيناء. وظلت الأمور هكذا من عام 1971 حتى يوم الخامس من أكتوبر عام 1973. ويشار إلى أنه تم تزويد القوة المصرية النوبية الموكل لها مهمة الإرسال باللغة النوبية بـ 20 محطة لاسلكية، أطلقوا عليها اسم "أوندي"، أي ذكر بالنوبية، وتم تعريفها بـ "أوندي1" و"أوندي2" وهكذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"أوشريا" "ساع أوي" على "أوندي"
يستطرد بشغف، أنه في اليوم الموعود كان كل قائد معه خطاب مغلق عليه أن يفتحه الساعة الثانية إلا عشر دقائق بعد الظهر. وفي الوقت المحدد تم فتح الخطابات التي حملت كلمات "أوشريا"، أي "اضرب" و"ساع أوي" أي الساعة الثانية. ويشير بطل الشفرة النوبية إلى أنه في تمام الثانية وعشر دقائق من بعد ظهر هذا اليوم كان تحرك القوات المسلحة المصرية في أوجه.
يتحدث أحمد إدريس عن فكرته بثقة بالغة ويقين بأن شفرة اللغة النوبية أسهمت بقدر كبير في صناعة النصر. يقول، "ثلاثة أشياء صنعت النصر إضافة إلى إرادة الله: دهاء وحكمة الرئيس السادات في خطة الحرب والتمويه الذي سبقها، وفكرة خراطيم الماء التي أسقطت خط بارليف التي اقترحها الراحل اللواء مهندس باقي زكي يوسف، وفكرتي باستخدام اللغة النوبية شفرة لرسائل الجيش وتعليماته".
وسام النجمة العسكرية
رسائل الجيش وتعليماته باللغة النوبية التي أسهمت في صناعة نصر أكتوبر لصاحبها الجندي أحمد إدريس أحرزت له "وسام النجمة العسكرية" الذي قلده إياه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في احتفالات النصر عام 2017.
وفي إطار احتفالات هذا العام بنصر أكتوبر، ألقى "الحاج أحمد" كلمة في احتفال شعبي أقيم في الإسكندرية قبل أيام، تحدث فيه باختصار عن الشفرة واللغة النوبية وأثرها في تحقيق النصر، وهي عادة يحرص عليها في كل عام. يقول، "ألبي وعدد من أبطال حرب أكتوبر في كل عام دعوات لشرح وسرد ما قمنا به في الحرب في جامعات ومدارس ومراكز شباب".
وبالرغم من ذلك، فإن أياً من أحفاد "الحاج أحمد" الـ 11 لا يتحدث اللغة النوبية. لماذا؟ يقول، "لأنهم جميعاً يعيشون بعيداً من النوبة، ولدوا ونشأوا في الإسكندرية، ولا يعرفون عن اللغة النوبية شيئاً. لكن جميعهم يعرف ما فعله جدهم قبل 47 عاماً بالتفصيل".
يحلم "الصول أحمد إدريس" الذي كان يعمل في صناعة الأشغال اليدوية النوبية إلى أن ضعف نظره في السنوات الأخيرة، بأن يوثق عمل درامي أو وثائقي دور اللغة النوبية في حرب أكتوبر، "فما جرى يستحق أن تعرفه الأجيال الجديدة، وأن يبقى في الذاكرة لأنه جزء من تاريخ مصر".