فاجأت الأكاديمية السويدية على عادتها سنة تلو أخرى، الأوساط الأدبية والإعلامية في العالم، بمنح جائزة الأدب للشاعرة الأميركية لويز غلوك، التي لم يرد اسمها بتاتاً في لوائح الترشيحات أو التوقعات، والتي يبدو أن شهرتها نادراً ما تخطت تخوم الولايات المتحدة، فهي أميركية بامتياز. وإذا تم الافتراض أن الأكاديمية سعت في اختيار هذه الشاعرة إلى "التكفير" عن خطأها "الأميركي" عندما منحت المغني وكاتب الأغنيات بوب ديلان الجائزة عام 2016 في بادرة أولى وغير مألوفة في تاريخ الجائزة الأدبية التي فاز بها كبار الأدباء في العالم، فهي ربما لم تكن مصيبة تماماً، لتجاهلها هذه السنة أيضاً، روائيين أميركيين عالميين كباراً من أمثال بول أوستر وجويس كارول أوتس وتوماس بينشون وسواهم، مثلما تجاهلت الروائي الكبير الراحل فيليب روث. ولكن هل نجحت الأكاديمية عبر اختيارها لويز غلوك في إقناع الكتاب والصحافيين الذين حملوا عليها وهاجموها لإدخالها موسيقياً كبيراً هو بوب ديلان في خانة لا علاقة له بها هي خانة الأدب العالمي؟ لكنّ المفاجأة لا تقتصر هنا، فاختيار غلوك كان بمثابة صدمة للكتّاب المرشحين بقوة وللقراء الذين كانوا يتوقعون نتيجة أخرى.
قد لا يحق لأحد أن يناقش "ذائقة" لجنة نوبل ولا خياراتها، لكن مفاجآتها تكون صادمة في أحيان وغير مبررة كثيراً. الصحافة الفرنسية على سبيل المثل وصفت الشاعرة الفائزة بـ"المجهولة" و"السرية"، خصوصاً أنها لم تترجم لها إلى الفرنسية سوى قصائد قليلة في مجلة "شعر" التي يديرها الشاعر ميشال دوغي، ولم يصدر لها أي كتاب منفرد، بينما تستقطب فرنسا معظم الشعراء الأميركيين وتترجم لهم.
الجمالية البسيطة
جاء في براءة "بيان" الجائزة أن الأكاديمية السويدية منحت لويز غلوك جائزة نوبل تقديراً لـ"صوتها المتميز الذي، بجماليته البسيطة، يجعل الوجود الفردي كونياً". طبعاً هذا كلام جميل وعام، ولا يمكن استيعابه إلا في قراءة شعرها أو بعض دواوينها القليلة. واللافت عربياً أنّ الشاعر سامر أبو هواش، كان أعد مختارات للشاعرة غلوك (يسميها غليك) من أربعة دواوين، وكتب لها مقدمة وأصدرها ضمن سلسلته عن الشعر الأميركي المعاصر (دار الجمل ودار كلمة 2009) بعنوان "عجلة مشتعلة تمر فوقنا"، متيحاً أمام القراء العرب الفرصة لقراءتها والاطلاع على تجربتها الشعرية. ويرى أبو هواش في مقدمته أن ثمة مجالين يهيمنان على شعر غلوك: مجال الشعر اليومي المطعم بالسردي والواقعي والأوتوبيوغرافي، ومجال الشعر الإيحائي، الميتافيزيقي، السري وشبه الملغز. ويشير إلى استقائها رموزاً من الميتولوجيا الإغريقية، خصوصاً مثل عوليس وبينلوب وأخيل وساحرات هوميروس، وإثارتها على ضوء هذه الميتولوجيا، مشاعر وشجوناً مثل الحب والغياب والرحيل والعودة والرغبة والانتظار. ويعتمد أبو هواش بعض بياناتها أو مقولاتها الشعرية والنظرية، فهي بدأت قراءة الشعر باكراً، وآثرت منذ مطلع مسيرتها التركيز على المفردات البسيطة، وما يهمها في الصنيع الشعري هو السياق الذي توضع فيه المفردة. وتقول إنها تحب الوزن ولكن تفضله خفياً أي داخلياً. والتركيب الشعري يتكامل في نظرها عبر "إيقاع وموسيقى خفيين" والغاية خلق ما تسميه التأثير الشعري. أما ما يجذبها فهو المضمر، الذي لا يقال، الإيحاء والصمت المتعمد. وتقول في هذا الصدد: "ما لا يقال يضمر قوة أكبر. ما لا يقال يوازي اللامرئي".
أما مترجمة قصائدها إلى الفرنسية ماري أوليفييه التي نُشرت في مجلة "شعر"، فترى أن لويز تنتمي إلى جيل شعري عرف باسم "الشعراء الموضوعيين"، ومنهم لويس ززوكوفسكي، شارلز ريزينكوف، جورج أوبن وكارل راكوزي. وقد برز هذا الجيل في أواخر الستينيات وفي السبعينيات. وترى أن غلوك حاضرة بقوة في المشهد الأميركي الراهن، وشعرها يمثل في كل مختارات الشعر الأميركي المعاصر. وتشير إلى أن النزعة الأنثوية تجتاز شعرها تواجه حالاً من المقاومة المقصودة، مما يخلق لديها معادلة فريدة قائمة على حضور الشعور الأنثوي وغيابه في آن واحد. ويجب عدم فهم النزعة الأنثوية بـ"النسوية"، فهي إذ تحتفي بالمرأة إنما تحتفي بها بوصفها إنساناً، يفيض بمشاعر حميمة وأليفة. أما الأنا الشعري لديها فهو شخصي بمقدار ما هو جماعي.
جوائز ودواوين
فازت لويز غلوك بجوائز أدبية مهمة في الولايات المتحدة، مثل ميدالية العلوم الإنسانية الوطنية (منحها إياها الرئيس باراك أوباما)، وجائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة نقاد الكتاب الوطنية وسواها. وعينت الشاعرة، مستشارة أدبية في مكتبة الكونغرس عام 2003، واختيرت "شاعرة أميركا المتوجة" في 2003. ووصفتها الأكاديمية السويدية بـ"الشاعرة ذات الطابع السير- ذاتي"، و"شعرها معروف بكثافته العاطفية وباستعادته للخرافة أو التاريخ أو الطبيعة والتأمل في التجارب الشخصية والحياة العصرية". ولدت غلوك لعائلة يهودية هنغارية، في مدينة نيويورك عام 1943 وترعرعت في لونغ آيلاند في نيويورك. بدأت تعاني من فقدان الشهية العصبي بينما كانت في المدرسة الثانوية ثم تغلبت على المرض لاحقاً. تلقت دروساً في كلية سارة لورانس وجامعة كولومبيا لكنها لم تحصل على شهادة، ودرست الشعر في مدارس وجامعات. وتعمل غلوك حالياً كأستاذ مساعد وكاتب ضمن برنامج روسينكرانز في جامعة ييل. وتعيش في كامبريدج في ماساتشوستس.
ومن دواوينها: "البكر" (1968)، "البيت في مارشلاند" (1975)، "الحديقة" (1976)،"وجه يدنو" (1980)، "انتصار أخيل" (1985)، "أرارات" (1990)، "المروج" (1997)، "العصور السبعة" (2001)، "أفيرنو" (2006) وسواها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا قصيدتان للشاعرة لويز غلوك من ترجمة سامر أبو هواش:
"سعادة"
رجل وامرأة على فراش أبيض
إنه الصباح، أفكّر، وعمّا قليل سيصحوان
ثمة زنابق على نضد السرير
عناد بنيلوب
طائر يقف على النافذة.
نخطئ إذ نعتبر الطيور طيورا،
إذ غالباً ما تكون رسلاً.
لهذا ما إن يهبط الحمام
على عتبة النافذة حتى يقف ساكناً تماماً،
كانه يحاكي الصبر، رافعاً رأسه ليشدو منذراً:
"أيتها المكينة، أيتها المسكينة"،
ثم يطير كغمامة سوداء غلى أشجار الزيتون.
لكن من يمكنه أن يرسل كائناً
خفيفاً إلى هذا الحد ليقيّم حياتي؟
أفكاري عميقة وذاكرتي طويلة،
لماذا احسد حرية كهذه
حين أملك كل ما هو بشري؟
أولئك الذين تخفق في صدورهم أصغر القلوب
يملكون الحرية الكبرى.