كتابة السيرة الذاتية الأدبية عمل يكاد يكون مستحيلاً تحقيقه في العالم العربي والمغاربي والإسلامي بشكل عام، إنها عمل أدبي وأخلاقي شاق ومزعج، فالسيرة هي الكتابة عارياً، وهي الكتابة العارية، مغامرة تتطلب كثيراً من الصدق وجرعة عالية من الجرأة والصراحة والأمانة والحرية والتحرر من ضغط الضمير الجمعي الأخلاقي الخانق والمحافظ والرقيب على الحرية الفردية أولاً.
لكي تصبح كتابة السيرة الذاتية ممكنة يجب أن تتوافر جملة من المعطيات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب الأديب، وأولها توافر الحرية الفردية التي هي الطاقة الأولى للكتابة، إذ لا إبداع في غياب الحرية الفردية، فالعمل الإبداعي هو فعل فردي أساساً، فإذا كان الأديب يشعر، وهذه هي حال المجتمع العربي والمغاربي، بأن جيوشاً من العيون تراقب سلوكه الاجتماعي وتفتش في كلماتها وتقلبها وتريّيش جناحيها أو تقصهما، على المستوى الأخلاقي أو السياسي فإن الكتابة في ظل ظرف كهذا تكون معطوبة ومشوهة ومقموعة.
هيمنة ثقافة القطيع أو "الكومينوتاريزم" على الحياة الثقافية والأدبية العربية والمغاربية بشكل عام، تجعل عملية كتابة السيرة الذاتية الأدبية مستحيلة أو مشوهة أو مدخولة. فثقافة "الكومينوتاريزم" تحمل عداء كبيراً لكل ما هو فردي، والسيرة الذاتية هي بالأساس تفصيل للذات في محنتها الوجودية والاجتماعية والأخلاقية. كلنا يتذكر ما تعرضت له رواية "الخبز الحافي" للروائي المغربي محمد شكري من منع ومحاصرة، حتى أنها نشرت في ترجمتيها الإنجليزية والفرنسية قبل أن تصدر بشكل متستر وخجول في لغتها الأصلية العربية، وظلت ممنوعة لسنوات في كثير من الدول العربية ولا تزال كذلك حتى الآن في بعضها، لا لشيء إلا لأنها كانت تحفر في مسار السيرة الذاتية للكاتب من دون رتوش أو تزويق أو تهويم وصفي على غير عادة تقاليد الكتابة العربية والمغاربية، وهو ما أزعج الرقيب الأخلاقي، مع العلم أن "الخبز الحافي" رواية فيها إلى جانب ما يتصل بحقائق السيرة الذاتية للكاتب وأسرته كثير من التخييل السردي، ومع ذلك لم يتسامح الرقيب معها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما يذكر البعض ما حصل في سنوات السبعينيات مع كتاب "الأيام" لطه حسين الذي صدر عام 1929 وهي سيرته الذاتية التي كتبها في ثلاثة أجزاء، إذ تمت قصقصة بعض فقراته بوصية من الرقيب الأزهري، فحذفت منه ما يتصل بالنقد الذي وجهه الكاتب لهذه المؤسسة المرتبط أساساً بطريقة تعليمها وبرامجها وأساتذتها، و"الأيام" واحدة من الرواية السيرية الأولى والتي على الرغم من بساطتها إلا أنها كشفت ما تواجهه السيرة الذاتية أمام سؤال الرقيب الأخلاقي والبيداغوجي والديني.
في ظل هذا الحصار الأخلاقي والديني والسياسي تبدو السيرة الذاتية رهينة ثقافة "السترة"، أي ما هو مطلوب من الكاتب هو الاكتفاء بالحديث وعرض المشترك ما بين الناس كـ "الفقر" و"الزواج" و"الأسفار" و"النجاح" ويمنع الحديث عن "الحميمي" في حياة الكاتب أو في حياة من حوله خصوصاً ما يتصل بالأسرة الصغيرة، إذ يحظر الحديث عن شؤون "الجنس" و"الشذوذ" و"الخيانة" و"العلاقات المشبوهة" و"التحرش" داخل هذا الفضاء. وربما يذكر البعض ما تعرضت له مذكرات الكاتب الكبير سهيل إدريس من منع من قبل أسرته، إذ منعت نشر جزء من مذكراته لأنه تعرض فيها إلى الحديث عن بعض أمور الأسرة ما حرّك الرقيب الأسري ليسكت صوت الذات ويعلق السيرة إلى يوم آخر.
ولأن المجتمع العربي والمغاربي والإسلامي المتميز بثقافة "السترة" (وإذا بليتم فاستتروا) و(غض الطرف) تغيب فيه وعنه ما يسمى بثقافة "الاعتراف" التي هي من تقاليد التربية المسيحية، فإن كتابة السيرة الذاتية تخلو من محطات "الاعتراف" التي هي محور الذات، وتغرق عادة في الأوصاف الخارجية وفي الذكريات العامة والعمومية التي يشترك فيها الجميع.
ولأن ثقافة الاعتراف غائبة، وهي ثقافة تتميز بالقوة والقدرة على المراجعة ومواجهة الخطأ، فإن هذا الغياب يسمح بظهور ثقافة "النفاق" أو ثقافة "البطولة" الزائفة، بطولة "العاشق" أو "الفحل" أو "الزعيم"، ونحن نقرأ بعض ما نشر في السيرة الذاتية عند الكتّاب العرب والمغاربيين نشعر بمسحة "النفاق" الذي يهرّب من "التصريح" ومواجهة "المرآة" ويغرق في المراوغة "اللغوية" والتعميمات الخرقاء التي تبعد الذات الكاتبة عن ذاتها وتدخلها في لبوس غير لبوسها.
أمام هذا الواقع المختل، واقع العين الرقيبة، تبدو السيرة الذاتية في الكتابة العربية رهينة الفكر "الطهراني" المصطنع، نقرأ نصوصاً فنعتقد بأننا لسنا أمام كتّاب بل أمام أنبياء أو "أولياء صالحين" في السلوك والأخلاق والسياسة والتربية، إذ تسقط الأخطاء وترتفع أسوار التفوق والذكاء والاستقامة، ويظهر الكاتب الذي هو بطل السيرة إما "سوبرماناً" "مُحَارَباً" من قبل أعدائه، وهو في ذلك كأنما يطلب "التعاطف" و"الشفقة" من القارئ، نجد هذا مثلاً في سيرة الطاهر وطار الذاتية والتي عنونها بـ"أراه – الحزب وحيد الخلية – دار الحاج موحند أونيس"، إذ يعرض حياته مراقباً سياسياً في حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم، ويبحث عن خلافاته مع الحزب وكأنما يريد أن يقدم بطولة فردية من داخل حزبه الذي أوصل البلاد إلى الهاوية.
وتحتمي السيرة الذاتية في الكتابة العربية بفضاءين أساسيين وهما: "القمع السياسي" و "المغامرة العاطفية". ففي القمع السياسي تتشابه الحكايات من كاتب إلى آخر، وفي ثورات التحرير الجميع أبطال من دون خوف ولا خطأ، نجد هذا مثلاً في رواية المغربي عبد الكريم غلاب "سبعة أبواب"، وهي تجربة الكاتب في السجن في زمن المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، ويبدو البطل مثالياً في كل شيء، شجاعاً من دون خوف، وكأنه مصنوع من "لحم الآلهة"!
لم نقرأ يوماً في السيرة الذاتية عن كاتب عربي أو مغاربي مناضل كتب "هزيمته" أو "خيانته"، إنهم جميعهم لم يعرفوا الخوف ولم تساومهم الخطيئة ولم ينزلقوا في الخيانة. وهي سير ذاتية مكتوبة بطريقة تشبه حس "الزعيم" العربي، إذ نشعر وكأن الكاتب ما هو إلا صورة أخرى من "الزعيم" السياسي القامع الذي يسعى أن يقنعنا بأنه خصمه وهو يناضل ضد سلوكه ودكتاتوريته.
أما الفضاء الثاني فهو "المغامرة العاطفية"، فالكاتب العربي "فحل"، فكل النساء عشقنه، وله معهنّ مغامرات "دونجوانية" متعددة، وهي حالة من الأمراض النفسية الناتجة من الكبت الذي يعيشه الأديب، خصوصاً الذين ينزلون من الريف. فما نشر تحت اسم السيرة الذاتية المرتبطة بالمرأة موضوع عشق هي عبارة إما عن هلوسات ومناجاة ونواح وبكائيات أو فتوحات وهمية "دونكيشوطية" أو "كازانوفية" مع النساء بشكل يدعو إلى السخرية.
والهروب إلى الحديث عن السياسة و"النضالوية" الخارقة للعادة هو هروب من الحديث عن "المزالق" و"الأخطاء" و"الخيانات" التي يكون قد عاشها أو مارسها هذا الأديب في حياته الاجتماعية أو الأسرية أو السياسية، لذا لم نقرأ كاتباً عربياً أو مغاربياً كتب سيرته الذاتية على شاكلة "اعترافات" جان جاك روسو مثلاً. لذا تبدو كتابة السيرة الذاتية الأدبية العربية والمغاربية هي شبيهة بكتابة سير "الزعماء" الرؤساء والملوك وقادة الجيوش العربية الذين لم ينتصروا في معركة واحدة إلا معركتهم على الورق.
لماذا إذاً الخوف من السيرة الذاتية؟ لأنها وبكل بساطة هي النص الذي يحيل مباشرة على الواقع، من خلال تجربة شخصية وفردية، والرقيب الأخلاقي أو الديني أو السياسي يخاف من هذا التماس ما بين الواقع والكتابة في السيرة الذاتية، هذا الالتحام ما بين الواقع والكاتب، لأنها رسالة قادرة، إذا ما توافر فيها الصدق والحرية والجرأة، أن تهز أفكار القارئ وتشوش إيجابياً قناعاتها الباردة المحنطة.