دخل لبنان وإسرائيل الأربعاء 14 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، امتحان التوصل إلى إنهاء النزاع حول الحدود البحرية والبرية في المفاوضات التي عقد أول اجتماع لها برعاية الأمم المتحدة، ممثلة في المنسق الخاص لأنشطتها في لبنان يان كوبيش، وحضور "الوسيط المسهل" لهذه المفاوضات من الجانب الأميركي، مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر، في مقر قيادة قوات الأمم المتحدة في بلدة الناقورة بجنوب لبنان.
ويدشن الاجتماع الأول مرحلة جديدة فائقة الدقة، لأنه يفترض أن "تسير عجلة التفاوض بوتيرة تمكننا من إنجاز هذا الملف ضمن مهلة زمنية معقولة"، كما قال رئيس الوفد اللبناني المفاوض العميد الركن بسام ياسين في افتتاح الاجتماع، بما يوحي أن الجانب اللبناني يستعجل التوصل إلى النتائج التي يتوخاها من تثبيت حقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخالصة في عرض البحر، ليتمكن من مباشرة الإفادة من الثروة النفطية أو الغازية الدفينة في بلوكات النفط العائدة له، ولاسيما البلوكين 8 و9 اللذين أطلقت وزارة الطاقة دورة تراخيص لتلزيم التنقيب، تشملهما، وهما البلوكان اللذان تدعي إسرائيل ملكيتها جزءاً من مساحتيهما.
وفضلاً عن أن لترسيم الحدود أهمية مضاعفة بسبب الأزمة الاقتصادية المالية الخانقة التي يعيشها البلد، بحيث يتمكن من استكشاف كميات تجارية من النفط أو الغاز تعينه مستقبلاً على معالجة ديونه الكبيرة المتعثرة، فإن لانطلاق المفاوضات أهمية قصوى في ظل مزيج الترتيبات والصراعات التي تشهدها المنطقة، وما يشهده لبنان من تجاذبات ومبادرات خارجية في شأن قيام حكومة جديدة، تنفذ برنامجاً انقاذياً وفق مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وفي سياق متصل، أعلن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية في بيان، بأن عون قرّر تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة إلى 22 أكتوبر، بناء على طلب بعض الكتل النيابية لبروز صعوبات تستوجب العمل على حلها.
ويحلو لأحد السياسيين اللبنانيين الذي يحرصون على مواكبة أي تطور في شأن لبنان، مع المناخات الإقليمية والدولية التي ترافقه، أن يقول إن ثمة "تلازماً" في مسار التفاوض على ترسيم الحدود بين العديد من المسارات الأخرى، بحيث يمكن توظيف أي تقدم فيها أو أي عرقلة، في أي مما يجري رسمه لهذه المسارات.
التلازم التقني بين البر والبحر
ترددت عبارة "التلازم" كثيراً في ما يخص المفاوضات، فعلى الصعيد التقني أصر رئيس البرلمان نبيه بري أثناء الاتصالات التي تولاها الجانب الأميركي لوضع إطار التفاوض، على أن يتلازم الاتفاق على المسار البحري مع الاتفاق على المسار البري للحدود، بحيث لا يتم اعتبار أي اتفاق في أحد المسارين منجزاً، إلا إذا جرى الاتفاق على المسار الآخر، وأن الاختلاف في أحدهما يلغي الاتفاق على الثاني.
لكن إسرائيل رفضت النص على ذلك في اتفاق الإطار خلال الأشهر الماضية، وساندها الجانب الأميركي، فجاء النص على كل من المسارين في فقرتين منفصلتين، لكنه ربط الموافقة النهائية عليها سوياً بإقرار الاتفاق من السلطات الدستورية، بحيث يمكن للجانب اللبناني أن يحقق التلازم بالرفض أو القبول لاحقاً على المستوى السياسي.
كما أن الجانب الأميركي تجنب التلازم من زاوية عدم مشاركته في الوساطة على رسم الحدود البرية، تاركاً هذا المسار برعاية ووساطة قيادة قوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، مكتفياً بلعب دور المسهّل والوسيط على المسار البحري.
لكن الخلاف بين الجانبين حول نقطة الانطلاق من البر يتوقف على مدى قبول إسرائيل بالعودة عن قضمها مساحة صغيرة بعمق 25 إلى 35 متراً من الأراضي اللبنانية عند منطقة الناقورة (النقطة B1 التي يجب أن ينطلق منها خط الحدود البحرية، وتتسع زاويته في مياه البحر، فإذا انطلق من الزاوية "المنطقة" التي قضمتها إسرائيل، تتقلص المساحة العائدة للبنان بحراً).
وسيستند الجانب اللبناني إلى معاهدة قانون البحار الدولي في العملية التقنية لتحصيل حقوقه، وهي معاهدة لم توقع عليها إسرائيل.
إلا أن خيار رفض السلطات اللبنانية لما تتوصل إليه المفاوضات التقنية لن يكون سهلاً، لأن ما ينتهي إليه الوفد التقني المكلف بالعملية التفاوضية لن يحصل من دون أخذ تعليمات من السلطة السياسية، بخاصة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي عهد إليه الإشراف على هذه المفاوضات وفق المادة 52 من الدستور.
الوظيفة السياسية لتسهيل أو عرقلة إنجاز الاتفاق
ومع ذلك، فإن لـ "التلازم" من الناحية التقنية وظيفة لاحقة في حال وجد "الثنائي الشيعي" المعني بهذه المفاوضات، أن هناك أسباباً سياسية توجب وقف إقرار الاتفاق أو تأجيله، إذا كانت هناك ظروف إقليمية غير مؤاتية، فالأمر يتوقف على سخونة أو برودة الصراع الأميركي - الإيراني في المنطقة، لاسيما إذا كان الجانب الإسرائيلي وبدعم أميركي، سيصر على رسم الحدود في شكل يهضم حقوق لبنان في البحر أو في البر، ويكون ذلك حجة لتأخير النتائج.
وفي هذا المجال، يقول مصدر في "الثنائي الشيعي" معنيّ بمتابعة المفاوضات، إن "معايير الاتفاق التقني لا تحتاج إلى اجتهادات، وبمجرد اتفاق الوفدين اللبناني والإسرائيلي على نقطة الانطلاق من البر (على شاطئ الناقورة اللبناني) لرسم خط الحدود البحرية، فإن جهاز الكمبيوتر كفيل بإنجاز العملية، ولن يأخذ الأمر وقتاً طويلاً".
تلازم التفاوض على الحدود مع مسار تأليف الحكومة
ثمة تلازم بين انطلاق مفاوضات الناقورة وبين الاندفاعة الجديدة لتأليف الحكومة برئاسة زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري، إذ إن الولايات المتحدة التي كانت تتابع مسألة تأليف الحكومة عن بعد، تاركة للجانب الفرنسي أن يحاول دفع اللبنانيين إلى إنهاء الفراغ من دون أن تتورط في العملية، باتت مهتمة بسرعة قيام الحكومة، بسبب انطلاق مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، نظراً إلى أن هذه المفاوضات تتطلب وجود حكومة شرعية تقر ما يتم التوصل إليه، إذا انتهت المحادثات التقنية إلى توافق على خطي الحدود البحرية والبرية بين البلدين، تمهيداً لإحالته إلى البرلمان لإقراره.
وإذا صح ما أشار إليه المصدر المعني في "الثنائي الشيعي" عن سهولة رسم الحدود البحرية متى حصل الاتفاق على نقطة الانطلاق من البر، وبالتالي عن سرعة إنجاز الاتفاق، فيمكن توقع نهاية سريعة لمفاوضات الترسيم خلال مدة تراوح بين شهرين وأربعة أشهر في أقصى تقدير، ما يعني الحاجة سريعاً إلى حكومة لتقر الاتفاق.
تلازم الترسيم مع فرملة العقوبات والانتخابات؟
في المقابل، هناك تلازم آخر على الصعيد السياسي بين تلك المفاوضات والعقوبات الأميركية على "حزب الله" وحلفائه، إذ إن كل الأوساط السياسية شددت على أن الرئيس بري و"حزب الله" استعجلا الولايات المتحدة للحصول على موافقة إسرائيل على بدء التفاوض لوقف مسلسل العقوبات الذي بدأ ضد الحلفاء، بشموله في 8 سبتمبر (أيلول) الماضي، الوزير السابق ومعاون بري النائب علي حسن خليل، والوزير السابق الحليف للحزب في تيار "المردة"، يوسف فنيانوس.
ويلاحظ أحد السياسيين المتابعين للموقف الأميركي أن واشنطن كانت لوّحت بسلة عقوبات جديدة على مزيد من حلفاء الحزب في الأسبوع الأول من الشهر الحالي، لكن بري أعلن عن اتفاق الإطار على مفاوضات الحدود في الأول منه، والعقوبات لم تصدر حتى الآن، مما يعني أن الإدارة الأميركية "فرملتها" نتيجة ليونة "حزب الله" وبري حيال بدء المفاوضات على الحدود التي توليها إدارة دونالد ترمب أهمية قصوى، من أجل إضافتها إلى إنجازات الرئيس الأميركي في المنطقة، بموازاة اتفاق السلام بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، التي يمكن أن تعينه على إحداث تقدم على منافسه جو بايدن في الانتخابات الرئاسية بعد 19 يوماً.
ويستدل الذين يتحدثون عن التلازم بين التفاوض الحدودي اللبناني - الإسرائيلي بوساطة أميركية ورعاية دولية، وبين توظيف ترمب لانطلاقها في الانتخابات الأميركية، بالإشارة إلى إكثار المسؤولين الأميركيين من الإشادة بها، فلا يلبث ديفيد شينكر أن يتحدث عن أهميتها حتى يخرج وزير الخارجية مايك بومبيو ليرحب بانطلاقها متعهداً بإنجاحها، كما حصل بعد ساعات من انطلاق مفاوضات الناقورة.
خطوة إيرانية لاستيعاب الضغوط؟
من جهة ثانية، يقول دبلوماسي عربي في بيروت، إن إدارة ترمب بحاجة إلى إلحاق إنجازاتها في شأن اتفاقات السلام مع إسرائيل، بخطوات أخرى.
وعلى الرغم من أن التفاوض على الحدود بين لبنان وإسرائيل ليس اتفاق سلام بين الدولتين، فإن الجانب الأميركي يعتبره إنجازاً لمصلحة حليفته تل أبيب، يحفظ أمنها وحدودها حيال تهديد "حزب الله"، ويرضي الناخبين الأميركيين اليهود، نظراً إلى أن استمرار مسار اتفاقات السلام مع الدول العربية متعذر الآن، بعدما كانت واشنطن تأمل بانضمام السودان وغيره إليه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت يتحدث بعض خصوم "حزب الله" في لبنان عن تلازم مسار ترسيم الحدود والمسار الذي تقوده الولايات المتحدة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، فإن قيادته وقيادة حركة "أمل" تحرصان على إبعاد أية شبهة من هذا النوع، وتركزان على أن أي إنجاز على صعيد الحدود سقفه اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل، الموقعة منذ عام 1949.
كما أن حرص الحزب وأمل على انتقاد ضم الرئيس عون اثنين من المتخصصين المدنيين إلى الوفد اللبناني المفاوض، ومطالبتهما بالعودة عن هذا القرار، يأتي من باب استبعاد أية محاولة إسرائيلية لجرّ لبنان ليفاوض على أمور غير ترسيم الحدود.
ومع ذلك، فإن خصوم الحزب يعتقدون أن إقباله وبري على تسهيل التفاوض الحدودي، ليس معزولاً عن السعي الإيراني لمواكبة مناخ السلام مع الدول العربية، مخافة إحكام الحصار على طهران إقليمياً، ما دفعها إلى خطوات استيعابية لتخفيف الضغط عنها.
التندر حول "تلازم المسارين اللبناني والسوري"
في سياق متصل، يتندر بعض السياسيين اللبنانيين في الحديث عن مفاوضات الترسيم، وبين تزايد التقارير عن اتصالات تمهد لمفاوضات سلام بين سوريا وإسرائيل، تقوم بها روسيا وأميركا، وجس نبض للنظام السوري في هذا المجال، فيتذكرون العبارة الشهيرة التي كانت دمشق تربط لبنان بقرارها "تلازم المسارين اللبناني والسوري" في مفاوضات السلام مع إسرائيل، إبان محادثات صيغة مؤتمر مدريد في تسعينيات القرن الماضي، التي فشلت مع سوريا، ولم تستكمل مع لبنان، نظراً للانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000.
لكن الوضع بات معكوساً هذه الأيام، فبدلاً من أن يكون لبنان ملحقاً بسوريا، تحول بنفوذها دون ترسيم حدوده مع الجانب الإسرائيلي لإبقاء حدوده مفتوحة، وتستخدمه ورقة ضغط في مفاوضاتها، باتت تسعى إلى ضمان أمن نظامها عبر إبداء الاستعداد للسلام مع إسرائيل، فالتقارير الإعلامية تتناول اتصالات تجري بعيداً من الأضواء عبر جهات عدة. ولهذا حديث آخر.