فاجأ مصرف لبنان الأسواق المحلية بالتعميم الوسيط الذي حمل رقم 573 والذي ألزم بموجبه المستوردين المستفيدين من دعمه، إيداع المبلغ المطلوب تحويله إلى عملة أجنبية، بالسعر الرسمي (1515 ليرة للدولار)، لزوم استيراد المواد الأساسية، بالليرة ونقداً.
ويعني ذلك أن مستورد المحروقات أو الدواء أو الغذاء عليه تسديد قيمة اعتماده نقداً للمصرف، وليس عبر تحويلات مصرفية من حسابات قائمة كما كان يحصل سابقاً.
ويهدف التعميم إلى تقليص الكتلة النقدية الموجودة في الأسواق، بالتالي إلى تخفيض معدل التضخم والحدّ من إمكانية المضاربة على الليرة عبر تحويل فائض الكتلة النقدية إلى دولار في السوق السوداء.
ولكن التعميم الذي يشمل استيراد المحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية، يطرح إشكالية كبرى ويدفع التجار إلى فرض البيع نقداً. وإن كان الإجراء يطبّق بسهولة على بيع المحروقات والأدوية والأغذية، فإن مستوردي المستلزمات الطبية يجدون أنفسهم أمام الإفلاس المحتّم، فيما لا قدرة على المستشفيات والجهات الضامنة على الدفع نقداً.
وبينما يتّجه التجار إلى البيع نقداً للمواطنين لتأمين رأس المال النقدي المطلوب، تحرّك المركزي مجدداً على خط ضبط الكتلة النقدية، عبر وضع سقوف لما يمكن أن تسحبه المصارف من حساباتها الجارية لدى مصرف لبنان.
ولدى تخطي هذه السقوف، تحتسب المبالغ المطلوبة من حسابات المصارف المجمّدة لدى المركزي، ما يعني تكبد المصارف في هذه الحالة خسارة الفوائد المرتفعة الناتجة من هذه التوظيفات.
خفض السحوبات
إجراء مستجد، تترجم سريعاً بخفض للسحوبات النقدية بالليرة التي تتيحها المصارف لعملائها إلى مستويات متدنية تصل إلى حدود مليوني ليرة (أي 500 دولار بسعر السوق السوداء) شهرياً مهما كانت قيمة الودائع في المصرف، فيما بقيت سقوف السحوبات عبر بطاقات الائتمان من دون تغيير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إجراءات مصرفية خلقت حالة من الهلع والبلبلة لدى المواطنين الذين كما يبدو يفرض عليهم تقييد جديد (Capital Control) لودائعهم بالليرة، كما تفرض عليهم مستويات متدنية للعيش الكريم.
فمن جهة المواطن، هو مطالب بالدفع نقداً، ومن جهة أخرى تقيّد سحوباته النقدية بحدود متدنية. يضاف إلى كل ذلك مستويات التضخم التي فاقت 400 في المئة، كما خسارة العملة الوطنية أكثر من 80 في المئة من قيمتها لتتآكل قيمة السحوبات المتاحة.
وفيما لن يستطيع اللبناني سحب حتى راتبه نقداً، تبرز المخاوف من دفع الاقتصاد إلى انكماش أعمق في ظل تقييد القدرة على الإنفاق وحدها بالضروريات، ما يدفع المزيد من الشركات والمؤسسات إلى الإفلاس والإغلاق ومعها مستويات جديدة للفقر والبطالة.
وقف استيراد المستلزمات الطبية... موت محتّم
في المقابل، رفعت نقابة تجار ومستوردي المعدات والمواد الطبية والمخبرية في لبنان الصوت مجدداً، معلنة التوقف عن تسليم المستلزمات الطبية، إلا في الحالات الطارئة للمستشفيات والمختبرات، نظراً إلى عدم قدرتها على تأمين قيمة الاعتمادات نقداً لمصرف لبنان، بخاصة أن هذه الشركات أودعت ومنذ أشهر، في المصارف مبالغ بالليرة اللبنانية تقدّر بالمليارات لإجراء التحويلات المتوجبة عليها للشركات الموردة بحسب سياسة الدعم التي أقرها مصرف لبنان والتي لم ينفذ إلا جزء منها.
من جهة ثانية، تؤكد نقيبة مستوردي المعدات والمواد الطبية سلمى عاصي أن مخزون الشركات لا يتعدى بأحسن الأحوال ستة أشهر، ومن بعدها سيواجه المواطن اللبناني المريض خطر الموت في المنزل في ظل توقف كل المستشفيات عن العمل.
وتشرح عاصي أن المواد والمستلزمات الطبية هي كل ما يستعمل في المستشفيات غير الأدوية بدءًا من الإبرة والمصل والأشرطة البلاستيكية، وصولاً إلى صمامات القلب وبطارياته وأجهزة غسل الكلى والأشعة وغيرها...
وتوضح النقيبة أن مشكلة الاستيراد بدأت منذ شهر يوليو (تموز) 2019، حين أوقف مصرف لبنان التحاويل إلى الخارج بأزمة حلّت عبر تأمينه 85 في المئة من قيمة البضائع المستوردة بالسعر الرسمي في بداية عام 2020، ولكن بآلية بطيئة جداً للحدّ من استنزاف الاحتياطيات النقدية لديه.
فالمركزي أخبر النقابة أنه سيخصص 240 مليون دولار فقط سنوياً لدعم المستلزمات الطبية، فيما لم تتخطَّ قيمة ما دُعم منذ بداية العام وحتى اليوم 133 مليون دولار.
ضغوط على المخزونات الحالية
واقع تقنين استيراد المواد الأساسية رتب ضغوطاً على المخزونات الحالية التي وصلت إلى حدّ النفاذ لولا أزمة كورونا التي أبعدت المرضى عن المستشفيات.
لا قدرة على تأمين السيولة
في سياق متصل، تشير سلمى عاصي إلى أن للنقابات الصحية أموالاً باتت بحكم المجمدة في المصارف اللبنانية، فبعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذها المركزي، لن تستطيع الشركات استرداد أموالها المقدرة بحدود 40 مليون دولار، أي ما يقارب 60 مليار ليرة لبنانية.
وما يزيد الأمور تعقيداً، توضح النقيبة أن المستشفيات والجهات الضامنة (الجيش والدرك ووزارة الصحة وصندوق الضمان) لن يستطيعوا تسديد فواتيرهم نقداً، فهذه الجهات التي تشكل 90 في المئة من إجمالي حجم القطاع الصحي، تدفع عبر تحويلات أو شيكات مصرفية، فيما المرضى الذين يسدّدون ثمن طبابتهم لا يتعدى حجمهم 10 في المئة من قيمة الاستشفاء.
وتضيف عاصي أن للشركات المستوردة فواتير لبضاعة مسلّمة وعلى الأرجح مستعملة، لم تسدّد حتى اليوم، بخاصة من الجهات الضامنة.
الأسواق البديلة
خسائر الشركات المستوردة للمستلزمات الطبية أصبحت كبيرة جداً، وتحوّل الهدف اليوم إلى محاولة عدم الإفلاس بحسب النقيبة عاصي.
ففي لبنان 160 شركة تستورد المعدات الطبية يعمل فيها 2500 موظف باتوا مهدّدين بلقمة عيشهم. كما تحذّر من أن الشركات العالمية المصنعة للأدوات الطبية تقوم بتدقيق على الشركات اللبنانية التي تعمل معها للتحقق من وضعها المالي وامتثالها للقواعد الدولية وحسن إدارتها لسلع حيوية.
وفي حال إفلاس شركة تعمل في السوق اللبنانية منذ سنوات طويلة ما أكسبها ثقة المورد العالمي، سيكون من الصعب استبدالها بشركة جديدة في دولة باتت معروفة أنها مفلسة.
وتبيّن عاصي أن التوجه إلى أسواق بديلة لا يطرح حلاً أيضاً، فمستلزمات كثيرة محصورة بعدد قليل من المصنعين الأوروبيين والأميركيين، كصمامات القلب، لذلك لا يؤمن النظر باتجاه الصين على سبيل المثال، بديلاً كاملاً عن المعدات والحاجات الأساسية للعمليات الجراحية الدقيقة.
وتحذّر النقيبة أن القطاع الصحي، بعد الإجراءات الأخيرة بات أقرب إلى الانهيار نهائياً. فمع نفاذ مخزونات الشركات ستقفل المستشفيات، وسيواجه الأفراد الموت في منازلهم.