في صيف 1987 توترت العلاقات بين اليمن والسعودية وكادت مواجهة عسكرية ان تنشأ بينهما، ولما كانت العلاقات تمر بمرحلة جفاء وشبه قطيعة، اتصل رئيس الوزراء الراحل (عبد العزيز عبد الغني) بالأستاذ (النعمان) في جدة طالباً منه، بـاسم صالح، ان يبحث الموضوع مع (الملك فهد) بعيداً عن القنوات الرسمية لما يربطهما (الملك فهد والنعمان) من صلات ود وصداقة قديمة، ولم تكن حالة (النعمان) الصحية تسمح له بالانتقال الى الرياض، فكتب رسالة الى (الملك) حملتها وسلمتها الى مستشاره المرحوم (علي بن مسلم) في مقره بفندق الانتركونتننتال، وطلب مني (بن مسلم) ان التقيه صباح اليوم التالي ليبلغني بالرد.
الحرص على سلامة البلدين
في صباح اليوم التالي عدت الى (علي بن مسلم) الذي أبلغني رسالة شفهية من الملك فهد يـؤكد فيها الحرص على سلامة البلدين وأمنهما، وان كل القضايا يمكن معالجتها بهدوء من دون حاجة الى تصعيد، وعدت الى جدة وأبلغت الوالد بفحوى الرد، فكتب رسالة الى صالح حملتها في اليوم نفسه.
وصلت مساء الى مطار صنعاء (بعد غياب قارب 10 سنوات)، ووجدت مندوباً من تشريفات الرئاسة في انتظاري، وحملتني سيارة فوراً الى منزل (صالح) القديم بمنطقة (شعوب) شمال شرق صنعاء بجوار مصنع الغزل والنسيج، ولدى وصولي جرى تفتيشي واخذوا الحقيبة التي احمل فيها رسالة (النعمان)، فأخرجتها، وصعدت الدرج الى حيث كان (صالح) وحده في انتظاري، وكانت المرة الأولى التي التقيه فيها وجهاً لوجه.
بعد ان استلم (صالح) الرسالة اتصل بـ (عبد العزيز عبد الغني) وقال له إن (الضيف وصل)، وقرأ عليه جزءاً من رسالة (النعمان) التي سلمتها إليه فور السلام عليه، كان (صالح) ودوداً ومسترخياً، وبحسب طبيعته التي تعرفت عليها عن قرب في ما بعد، فهو لا يشعر الضيف بالبرود او التعالي، قرأ الرسالة مرة ثانية، ولم يعلق على المحتوى، وطلب مني ابلاغ سلامه للوالد، وان الرد سيكون عند (عبد العزيز عبد الغني)، ولم التقِ (صالح) بعدها حتى العام 1992.
"لقد أصبح اليمن مستنقعاً لن يجف"
عدت الى جدة وأبلغت الوالد و(علي بن مسلم) بفحوى رد صالح الذي أبلغني إياه (عبد العزيز عبد الغني)، بعد هذه الزيارة قررت العودة الى اليمن على الرغم من معارضة الوالد الذي قال لي (لقد أصبح اليمن مستنقعاً لن يجف)، ولكن انتقال النعمان الى جنيف لمتابعة العلاج في ديسمبر (كانون الأول) 1987، سمح لي بأن اتردد كثيراً بين صنعاء وجدة وجنيف حتى سبتمبر (أيلول) 1990، وبعد ذلك عدت للاستقرار في اليمن، ولقد سمحت لي العودة بالاقتراب من الاحداث التي توجت في 22 مايو (أيار) 1990 بإعلان الجمهورية اليمنية، وما بعدها، وكنت شاهداً في أحيان كثيرة ومشاركاً في أحيان اخرى.
زادت العلاقات مع الرياض توتراً بعد الإعلان في 16 فبراير (شباط) 1989 في بغداد عن قيام (مجلس التعاون العربي) بحضور الملك حسين والـرؤساء صدام ومبارك وصالح، وهو ما رأت فيه الرياض، على الرغم من ثقتها بمبارك، تحالفاً مريباً على الرغم من التطمينات التي أطلقها الزعماء الأربعة، وقد انفرط التحالف عملياً بعد غزو الكويت وصرح لاحقاً مبارك ان صدام كان يريد استخدامه غطاءً لغزو الكويت ووصف المجلس بأنه كان (مجلس التآمر العربي) ضد دول الخليج، وأدى ذلك الى ما يصل حد القطيعة بين الرياض وصنعاء.
تضاعف معدل الزيارات بين العاصمتين
تطور التواصل بين (صالح) في صنعاء والقيادة الجديدة في عدن، وتضاعف معدل الزيارات بين المسؤولين الى العاصمتين، وقبل زيارة (صالح) التاريخية الى عدن في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 حاملاً مشروعاً لوحدة فيدرالية او كونفيدرالية، زار أحد قياديي الحزب الاشتراكي موسكو للتعرف على موقفها من التوجه نحو الوحدة، وحسب ما سمعت منه فقد فوجئ بالبرودة، إلى حد الإهمال، الذي قوبل به على عكس الحفاوة وكرم الضيافة والاهتمام التي كان يلقاها في الزيارات السابقة.
وحين التقى بمسـؤول كبير بالحزب الشيوعي السوفياتي، فهم ان موسكو غير قلقة ولا تمانع من تحقيق الوحدة، ولمس في اللقاء أن التحول الحاصل في موسكو سينعكس على مجمل العلاقات الدولية وان الحرب الباردة تضع اوزارها، ومثل سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 المؤشر ذا الدلالة الفارقة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة، والمقدمة لإعلان انهيار الاتحاد السوفياتي في 16 ديسمبر 1991.
الاتفاق على دولة اندماجية
وصل (صالح) الى عدن واتفق مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني (علي سالم البيض) منفردين على قيام دولة اندماجية، وما زالت المعلومات غير واضحة بشأن أسباب هذه الخطوة المفاجئة الحقيقية التي أقدم عليها (البيض) من دون تشاور مع قيادة حزب، على الرغم من ان صالح كان يحمل مقترحاً بدولة فيدرالية او كونفيدرالية، وعند عرض البيض المقترح على المكتب السياسي حصلت الموافقة عليها (تحفظ صالح منصر السييلي وسعيد صالح)، ثم جرى التوقيع على الوثيقة في اليوم التالي 30 نوفمبر 1989، وتحديد 22 مايو 1990 موعداً لإعلان الجمهورية اليمنية.
كانت المشاعر الشعبية تجاه هذا الحدث شديدة الإيجابية، وانتشرت روح تفاؤل كبيرة بقادم مستقر وآمن بعيداً عن احتمالات نشوب حروب، وكان الاعتقاد السائد عند الناس بأن نفقات التسليح الباهظة والقوات المسلحة، التي كانت تمثل أكثر من 45 في المئة من نفقات الدولة ستتقلص وتوجه الـى التنمية، وزادت الآمال باكتشافات نفطية جديدة وتحسن في الأداء الحكومي وتدفق للاستثمارات الى بلد به إمكانات كبيرة من الطاقة البشرية والطبيعية، وهذا ما يمنحه فرصاً تخفف من حاجته للمساعدات الخارجية.
مرت الأيام سريعة، والاستعدادات الإدارية والفنية تجري في صنعاء لاستقبال القادمين، مدنيين وعسكريين، من عدن لبدء النشاط الجديد من العاصمة، وإذا ما أعدنا التأمل في الصورة كاملة الآن لوجدنا أن أسباب فشل استكمال المشروع كانت كامنة في طريقة اعلانه وأسلوب التعامل معه من دون مسار استراتيجي واضح، وجرى التصرف بعشوائية وعاطفية مع أي مشكلات تظهر فجأة من دون دراسة لتبعات قرارات معالجتها.
لم يكن بالإمكان التراجع ولا حتى التباطؤ في سرعة الهرولة نحو 22 مايو 1990، على الرغم من الاعتراضات التي واجهها صالح من جماعة الاخوان المسلمين (رفضت مشروع دستور الوحدة واخرجت المسيرات لمقاطعة الاستفتاء)، وكبار رجال القبائل الشمالية، وكبار الضباط من أبناء قريته تحديداً، الذين خشوا تقلص نفوذهم بوجود شريك جديد في الحكم افترضوه منضبطاً وقادراً على ادخال مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة المتساوية، لكن (صالح) طمأنهم على أنه قادر على تسيير الأمور بطريقة لا تهدد مصالحهم المادية والسياسية ولا اوضاعهم الاجتماعية.
الوحدة او الموت
وبحسب الاتفاق بدأت الوحدات العسكرية من المحافظات الجنوبية بالانتقال نحو الشمال ووحدات مماثلة من المحافظات الشمالية نحو الجنوب، وانضم كبار الموظفين الجنوبيين الى إخوانهم الشماليين في مقار الوزارات والمصالح الحكومية في العاصمة، ومرة ثانية تدل النظرة، بأثر رجعي، الى ان القيادات الجنوبية كانت تجهل حقيقة الواقع على حقيقته في الشمال، وتعاملت معه ببراءة سياسية وبسطحية مذهلة، تحت تأثير الثقافة التي كانت ترى في الوحدة اليمنية هدفاً لا يجوز وطنياً التخلي عنه، بل ان الحروب بين الشطرين كانت تجري (من اجل الوحدة اليمنية)، ثم تحولت الى (الوحدة او الموت) في صيف 1994.
للحديث تتمة
كانت النشوة عارمة، حتى ذلك الوقت، بتحقق حلم راود الكثيرين، ولم تلتفت الا قلة الى مخاطر هذا التسرع الذي قدره البعض بأنه فرصة قد لا تتكرر مستقبلاً، وغاب عن الكثيرين ان ظروف اتخاذ القرار لم تكن طبيعية بل أقرب ما تكون الى قفزة نحو المجهول، ولم تكن النيات صادقة لتحقيق شراكة وطنية حقة ومتساوية متوافرة، وهكذا بدأت الشكوك تتصاعد، ومساحات الثقة تتقلص، والقلق يتزايد، والخوف من القادم يتعاظم.
مرت أشهر الوحدة الثلاثة الأولى تحت ستار كثيف من غبار التفاؤل والآمال، ولكن غزو الكويت في الثاني من شهر أغسطس (آب) 1990 خلط الأوراق وأربك المشهد في العالم العربي، ووضع اليمن الموحد على المحك لاتخاذ موقف كانت عواقبه شديدة القسوة وكلف اليمنيين اثماناً باهظة ما زالوا يدفعونها حتى اليوم... (وللحديث بقية).