اقتضت ضآلة المساحة وقلة الأمن في مدن العصور الوسطى، كما الحال في مصياف، أن يكون للمدينة قلعة لحمايتها من المعتدين والدفاع عنها من المغيرين، حيث جرت العادة أن تنفق المدينة ما لا يقل عن خمسة أثمان ميزانيتها العامة، في حفظ الأسوار، وإعداد المعدات للحرب والدفاع. هكذا، يبين الباحث ميشال لباد، المتخصص في التاريخ والدراسات الاجتماعية، أهمية قلعة مصياف في كتابه "الدولة الإسماعيلية في مصياف".
الموقع
تقع قلعة مصياف على الجانب الشرقي للمدينة التي تحمل اسمها في محافظة حماة، وسط غرب سوريا، على قمة تل متدرج الانحدار من الحجر الجيري الطبيعي، وتطل بارتفاع 20 متراً على مناظر جبال سوريا الطبيعية في النهاية الشرقية لمصياف، حيث تتماشى أسوارها الخارجية مع الخطوط العامة للمرتفع الصخري المتطاول الذي تنتصب فوقه، آخذةً شكلاً بيضاوياً مماثلاً لشكل القاعدة القائمة عليها.
وكان لموقع القلعة أهمية عسكرية واقتصادية كبيرة بالنسبة إلى الرومان والبيزنطيين، فقد أمَّنت لهم طرقاً سالكة إلى طرابلس الشام والبقاع اللبناني وأنطاكية وحمص وحلب وحماة ومعرة النعمان والساحل السوري. وشكل موقعها نقطة حماية هامة على الخط الدفاعي، الذي يضم أيضاً قلعة الحصن وبرج صافيتا وقلعة صلاح الدين، ولا تزال أبراجها وبواباتها قائمة كرموز لقوة ومناعة أسوارها.
أصل بيزنطي
تُعد القلعة جزءاً لا يتجزأ من الحي القديم لمصياف ومنطقة جذب رئيسة فيها، وواحدة من أفضل القلاع المحفوظة في سوريا حتى اليوم، حيث يعود تاريخ بنائها الأول إلى فترة شهدت كثافة في البناء العسكري في عصر الإمبراطورية الرومانية الشرقية.
وتشير الأدلة الأثرية إلى أن الطبقات السفلية وأساسات القلعة قد تعود أولاً إلى أصل بيزنطي، ثم أضيفت المستويات اللاحقة في ما بعد من قبل الإسماعيليين النزاريين، في عهد شيخ الجبل سنان راشد الدين، ثم المماليك والعثمانيين.
تسلسل زمني
استولى الإسماعيليون على القلعة للمرة الأولى عام 1141، وأسهم شيخ الجبل بتدعيمها. وهكذا، ظلت مصياف والمدينة المحيطة بها بمثابة عاصمة للدولة الإسماعيلية النزارية من منتصف القرن الثاني عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر، وأصبحت مقراً رئيساً ومركزاً هاماً لها، ثم حاصرها صلاح الدين نحو عام 1171، لكن سرعان ما رفع الحصار وانتهى بهدنة.
وفي عام 1260، استولى المغول على مصياف واحتلوا القلعة فترة من الزمن، ثم تحالف النزاريون مع المماليك لطردهم من سوريا واستعادة القلعة التي خربها المغول، إلى أن استولى السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 1270، وفيما بعد شغلت القلعة حامية فرنسية، لتخلى من قاطنيها ويُعاد ترميمها جزئياً.
عاصمة قلاع الدعوة
يذكر لباد أنه بعد استيلاء شيخ الجبل على منطقة جبل البهرة، الحافلة بالقلاع البيزنطية، تمكن من تأمين الدفاع عن دولته، حيث جاهد الإسماعيليون لامتلاك الحصون والقلاع، حتى بلغ عددها سبع قلاع أهمها قلعة صهيون، حسب أحد التقديرات، بينما قدَّرها المؤرخ الصليبي ويليام الصوري بعشر قلاع، أضاف إليها عارف تامر قلعة أخرى، وهي في مجملها: مصياف والمرقب والقدموس والخوابي والكهف وصهيون (صلاح الدين) والعليقة والمنيقة وأبو قبيس والمهالبة والرصانة.
لكن كان لقلعة مصياف أهمية خاصة لتوفر الإمكانيات البشرية والاقتصادية فيها، ولموقعها الاستراتيجي كحارس أمين عند مدخل جبل البهرة، فهي عاصمة قلاع الدعوة الإسماعيلية وقاعدة شيوخ الجبل، يرسلون منها الأفواج الفدائية ويستقبلون فيها الوفود المسلمة والصليبية والبعثات الدبلوماسية، ويتلقون عند أبوابها الغزاة والفاتحين.
التكوين المعماري
تتألف القلعة من عدة أجزاء، أبرزها الكتلة الصخرية التي بُنيت فوقها، وتضم أبنية وأقبية وخزانات للمياه، واحد منها محفور في الصخر، وآخر طليت جدرانه بطبقة عازلة إلى جانب غرف التموين وإسطبلات الخيول، فقد بنيت الأقبية ومستودع الماء والمؤونة الرئيس بحفر القاعدة الصخرية وتشكيلها في سويتها، بحيث اعتبرت القاعدة الطابق الأول للقلعة، واستعملت الأقواس الدائرية في حمل القبو، وصممت بحيث تستند إلى الأكتاف الصخرية من الداخل وإلى جدار السور من الخارج.
وللقلعة سور خارجي لا تزال بعض أجزائه قائمة، كان يحيط بالمدينة الصغيرة المجاورة للقلعة والتي تقوم مكانها اليوم منازل غير نظامية تزال تدريجاً. وللمدينة الصغيرة بوابة شيدت عام 1249 لحمايتها وتنظيم عملية الدخول إليها والخروج منها.
يظهر التقسيم البصري بشكل واضح في القسم السفلي من القلعة المحفور بالصخر، حيث تتوسطه منطقة مركزية يشكلها طابقان سكنيان، ومنطقة تحصين يحدها سور خارجي يرتفع بنحو أربعة طوابق. فالقلعة تتكون من ستة طوابق، الطوابق السفلية محفورة ضمن الصخر وتضم أجنحة سكنية وأقبية، والطوابق الثلاثة التالية كانت مخصصة لجميع أشكال الحياة من حمامات وأسواق وإسطبلات. أما الطابق السادس والأخير فكان مخصصاً لتربية الحمام الزاجل وتدريبه على المراسلات بين القلعة والقلاع التابعة لها.
المدخل والأبراج الخارجية
يصعد إلى مدخل القلعة بدرج متكسر، يشكل واجهته برج دفاعي حصين يتوسط برجين جانبيين ويرتفع على ثلاث طبقات، وفي نهايته عناصر معمارية تعلوها شرفة مخصصة للحراس ومزودة بطلاقات ومرامٍ للسهام. بعد خطوات من مدخل القلعة الداخلي وعلى يسار الزائر، يمتد سرداب طويل يطلق عليه "سوق الطويل"، يعتقد أنه كان يمثل السوق المركزية للقلعة التي كانت تجري فيها معظم عمليات البيع والشراء، من دون أن يمنع طابعه التجاري من وجود غرف صغيرة تحوي جدرانها على فتحات للرمي.
ويظهر تمايز عناصر الأبراج الخارجية للقلعة بشكل واضح، وبخاصة في أشكال الأبراج بين مربع ومستطيل ومضلع، وتتفاوت قياسات وألوان حجارتها. وهذا يرجع إلى تنوع واختلاف الأساليب المعمارية التي أسهمت في تشكيل هذا البناء من خلال مراحل زمنية متباعدة، التي تفسر أيضاً وضوح تفاصيل عمليات الترميم المتكررة للقلعة.
وفي الطابقين الثاني والثالث تتمركز الأبراج الخارجية، حيث الشرفات والجدران التي تحتوي على فتحات مختلفة لاستخدامها في الدفاع. أما الطابق الرابع فيوجد فيه القسم الداخلي من القلعة المبني خلال المرحلة الإسلامية، وهو يشكل قلعة داخل القلعة. ويعتقد أن سنان راشد الدين هو من بناه، حسبما تدل الكتابات العربية الإسلامية الموجودة على جدران الطابقين الخامس والسادس.
شبكة أنفاق
رممت القلعة عام 2000 من قبل مؤسسة "الأغا خان"، وأُهّلت فراغاتها وزودت بمرافق وخدمات إضافية لتوظيفها سياحياً، وكان للسوق النصيب الأكبر من الترميم، لتعبر عن وجه المدينة الأثري وتاريخها المنيع.
ودلت التنقيبات الأثرية التي أجرتها البعثات السورية والأجنبية على وجود شبكة أنفاق سرية كانت على الأرجح بمثابة ممرات هروب، وغرف مختلفة وأقبية كانت غير معروفة من قبل، إضافة إلى برج دفاعي مدخله من "السوق الطويل"، وله ثلاث فتحات للرمي وفي أرضيته فتحة واسعة يعتقد أنها مهرب نجاة سري يؤدي إلى خارج القلعة. كما عثر على نظام من القنوات والصهاريج الموضوعة في الجزء السفلي من القلعة، التي كانت تستخدم لجمع مياه الأمطار. وكشف أيضاً عن بئر ماء محفورة في الصخر عمقها نحو 20 متراً، وفيها ماء يصل إلى عمق نحو عشرة أمتار، ولها غطاء مثقوب بطريقة نحتية على شكل موشور هرمي مقلوب في وسط الغطاء.
وهناك أيضاً الحمام الإسلامي، الذي اكتُشف في مدخل القلعة الخارجي، وبعض أجزائه تصل إلى تحت الدرج الصاعد إلى القلعة، فضلاً عن الفرن الذي لا يزال بحالة جيدة، والعديد من العملات المعدنية وقطع السيراميك.
وتشير جميع الاكتشافات إلى أن التحصين صمم للتعامل مع فترات الحصار الطويلة التي كانت تشهدها القلعة.