أعلنت شركة الإسناد الخارجي "سيركو" الجمعة أن أرباحها ستكون أعلى بكثير من المتوقع سابقاً، بسبب تلقيها عقوداً حكومية، وذلك للمساعدة في إدارة برنامج الفحص والتتبع الخاص بفيروس كورونا.
وعلمنا أيضاً هذا الأسبوع، أن الحكومة دفعت في وقت سابق من هذا العام 10 ملايين جنيه إسترليني (12.91 مليون دولار) لاستشاريين إداريين للعمل على النظام، وأن معدل الأجرة اليومية لبعضهم يصل إلى سبعة آلاف جنيه إسترليني.
وثمة قلق عميق أيضاً من غياب الشفافية في منح هذه الصفقات وعقود أخرى خاصة بالمشتريات المتعلقة بحال الطوارئ الناجمة عن فيروس كورونا، التي مُنحت إلى القطاع الخاص. وفي هذا السياق، قررت مجموعة من النواب ذوي الانتماءات الحزبية المتعددة، تعمل بتنسيق مع منظمة "مشروع القانون الجيد"، (وهي مؤسسة لا تتوخى الربح)، اللجوء إلى القضاء بسبب رفض الحكومة الكشف عن تفاصيل العقود المتصلة بفيروس كورونا.
ويرى البعض أن ثمة "هوساً أيديولوجياً" لدى الحكومة ومستشاريها باللجوء إلى القطاع الخاص، بدلاً من القطاع العام في التعامل مع الفيروس. ويشتبه البعض بوجود محسوبية، بينما يزعم آخرون أن ثمة فساداً على نحو سافر.
فما هي الحقيقة؟ وهل الوضع عفن بقدر ما يُزعَم؟ أم أنه وجب منح الحكومة ظروفاً تخفيفية بسبب الطبيعة غير المسبوقة للأزمة الصحية الحالية؟
فلنبدأ أولاً بالأرقام. الثابت أن انفجاراً (تضخم) غير مسبوق في الإنفاق العام في الأشهر الأخيرة، مع اندفاع الحكومة للسيطرة على الجائحة. فقد خصصت وزارة المالية خلال صيف هذا العام 15 مليار جنيه لشراء معدات الحماية الشخصية، كما أعلنت الشهر الماضي أن 12 مليار جنيه ستذهب هذا العام لتمويل نظام الفحص والتتبع.
من دون شك فإن الأمر يتعلق بمبلغين ضخمين استثنائيين. وواضح أيضاً أن أجزاء كبيرة منهما، تتجه إلى أطراف فاعلة في القطاع الخاص، مثل المؤسسات المتخصصة في الشراء والاستشارات والإسناد الخارجي. فهذه الشركات تشتري معدات للحماية الشخصية، وتدير مراكز الفحص الحكومية، وتؤسس مختبرات جديدة، وتبني منصات لتكنولوجيا المعلومات، وتعد مراكز اتصال، إلى جانب مجموعة من الأنشطة الأخرى.
وتقدّر "تاسل"، وهي مجموعة للبحوث تراقب العقود المتعلقة بالقطاع العام، أن الحكومة منحت منذ فبراير (شباط) ألفاً و997 عقداً للقطاع الخاص، بقيمة إجمالية تساوي نحو 12 مليار جنيه.
لكن هل يجب أن يتجه هذا المال إلى القطاع العام بدلاً من الخاص، على غرار ما يحض عليه البعض؟ يقول أستاذ علم الفيروسات في كلية لندن الجامعية دينان بيلاي، إن الحكومة تبدو وكأن لديها "هوس بالإسناد الخارجي" واقترح بدلاً من إنفاق المليارات على إنشاء شبكة "المنارة" للمختبرات الخاصة لمعالجة عينات فيروس كورونا، أن يُنفَق المال على تعزيز قدرة المختبرات العامة أو الجامعية.
وعلى غرار ذلك، بالنسبة إلى البنية التحتية الخاصة بالفحص والتتبع، يجادل كثير من المراقبين بأن الأمر كان سيكون أكثر فعالية لو تم تعزيز قدرة القطاع العام، لاسيما من خلال استخدام فرق المجالس المحلية.
وتتمثل الميزة المفترضة للجوء إلى القطاع الخاص لإدارة هذه المشاريع، في أنه يمتلك الخبرة الخاصة ويستطيع توفير عدد كبير من الموظفين بسرعة. ومع ذلك، كان أداء فرق المتابعة في القطاع الخاص أسوأ في كثير من الأحيان، على صعيد الوصول إلى مخالطي المصابين، مقارنة مع الفرق المحلية لحماية الصحة العامة.
ويقول الخبراء إن هذه الميزة يمكن أن تكون بسبب قيام الفرق المحلية بالاتصال من أرقام هاتفية محلية، فيكون الرد على تلك المكالمات مرجحاً أكثر. وربما أن معرفة الفرق المحلية بشعاب المنطقة أو قدرتهم على التواصل مع الأشخاص الذين يتحدثون الإنجليزية كلغة ثانية، قد ساعدهم أكثر مما ساعد الفرق الوطنية.
ويتساءل نيك ديفيس من "المعهد من أجل (فعالية) الحكومة"، "ألم يكن مجدياً أكثر استعمال الخبرة والقدرة الموجودتين، كبنية أساسية في ما يتعلق بتتبع الحالات؟ "كان بالإمكان إنشاء فرق طبية في مجال الصحة العامة... بالنسبة إلي، فهذا المسار هو الذي كنتُ سأتبعه".
وماذا عن الاستشاريين الإداريين؟ يشير بحث قامت به صحيفة "غارديان" ومنظمة "الديمقراطية المفتوحة" الإعلامية، أن الإدارات العامة أنفقت أكثر من 56 مليون جنيه على جهات استشارية، بما في ذلك شركات مثل "ماكينزي" و"ديلويت" و"برايس ووترهاوس كوبر". وقد أثار هذا الأمر الذعر، ليس فقط في أوساط الرأي العام، بل أيضاً داخل الحكومة.
وهكذا أظهرت رسالة مسربة من وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء والخزانة، اللورد أغنيو، أنه طلب من كبار موظفي الخدمة المدنية مراقبة استخدام الاستشاريين والتوقف عن "حرمان ألمع [موظفينا العموميين] من فرص العمل على بعض القضايا الأكثر تحدياً وتحفيزاً ومواجهة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووافقه هذا الرأي فرانسيس مود، وزير شؤون مجلس الوزراء المحافظ السابق في عهد ديفيد كاميرون، فأشار هذا الأسبوع إلى أن الحكومة "تميل لاستخدام الاستشاريين بسهولة كبيرة".
ويبرز سؤال آخر عما إذا كان موظفو الدولة يمتلكون الخبرة لصياغة وإدارة هذه الصفقات الضخمة، الموقعة مع شركات الإسناد الخارجي. وفي هذا السياق، كشفت وزيرة الصحة هيلين ويتلي هذا الأسبوع عن غياب أي بنود عقابية حكومية (ضد الشركات الخاصة)، في العقود الخاصة بنظام الفحص والمتابعة، الممنوحة لجهات الإسناد الخارجي. وبررت ذلك بأن "العقوبات التعاقدية تكون في الأغلب غير قابلة للتنفيذ في ظل القانون الإنجليزي". غير أن خبراء قانونيين اعتبروا هذا التبرير غير مقنع.
ففي إطار مشتريات معدات الحماية الشخصية، هناك على الأقل متطلب فوري باستخدام منتجي ووسطاء القطاع الخاص، لأن الحكومة لم تكن أبداً في موقع يسمح لها بإنتاج تلك المعدات ابتداء من الصفر. لكن كانت هناك سلسة من التقارير تتحدث عن شركات وفرت معدات غير قابلة للاستخدام.
ولا مناص من احتمال وجود مقدار من الهدر الحتمي في ضوء السرعة التي اضطر المسؤولون التصرف بها ومدى حال الطوارئ الصحية.
ويقول نيك ديفيس (من المعهد من أجل الحكومة)، "في بداية الأزمة عندما كنا بحاجة ملحة إلى معدات كان ثمة اندفاع عالمي مجنون للحصول على إمدادات محدودة، فهناك حجة قوية لصالح عدم المرور بالعملية التنافسية الطبيعية ودفع ثمن أعلى، والإقرار بأن بعض الموردين سريعي التحرك، قد يعرفون مصنعاً في الصين (لديه إمدادات من معدات الحماية الشخصية)".
لكن فيما كان عدم وجود صفقات تنافسية مبرراً بسبب الوضع الاستعجالي (وهذا أمر مسموح به بموجب تنظيمات العقود العامة الصادرة عام 2015)، يقول خبراء إن هذه الظاهرة أصبحت أقل شرعية مع مرور الأشهر.
وحسب خبير المشتريات المستقل ومؤلف كتاب "الشراء السيء"، بيتر سميث، "نحن في خضم الجائحة منذ سبعة أو ثمانية أشهر، لذلك لا يمكن للشروط الخاصة بحالة الطوارئ والانسحاب (من الاتفاقية) أن تنطبق إلا لفترة معينة من الزمن".
ويعرض غياب المناقصات التنافسية الحكومة أيضاً إلى اتهامات بالمحسوبية. فقد كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" أن وزارة الصحة البريطانية منحت عقداً استشارياً بقيمة 280 ألف جنيه إلى الشركة العائلية الخاصة بديبي وايت، وهي الرئيسة السابقة لشركة الإسناد الخارجي المنهارة "إنترسيرف" وشخصية شاركت في إدارة مراكز فحص فيروس كورونا.
وفي حالة أخرى، نالت "بابلك فرست (Public First) وهي شركة للعلاقات العامة، عقداً من وزارة شؤون مجلس الوزراء، من دون عرض تنافسي، بلغت قيمته 840 ألف جنيه، وينص على إدارة مجموعات التركيز الاستشارية. ويدير المؤسسة شركاء مقربون من دومينيك كامينغ ومايكل غوف (الأول، مستشار بوريس جونسون، والثاني وزير في الحكومة البريطانية). وقال بيتر سميث بهذا الخصوص، "لا يتعلق الأمر على الأرجح بمغلفات ورقية بنية اللون، محشوة بالمال بل بعلاقات محسوبية ومعارف (زبائنية)".
ويُعتبَر تعيين البارونة دايدو هاردينغ، المحافظة، لإدارة نظام الفحص والمتابعة، وكذلك المؤسسة المرتقب أن تحل محل هيئة الصحة العامة في إنجلترا، من قبيل المحسوبية، لا سيما في ضوء خلفيتها في قطاع الاتصالات، وليس في مجال الصحة العامة. وما فاقم تعقيد المسألة، هو رفض البارونة هاردينغ التخلي عن دور المسؤولة عن الانضباط الحزبي للمحافظين في مجلس اللوردات.
وسواء يرقى ذلك إلى مستوى الفساد أم لا، فمن المؤكد أن غياب الشفافية لم يصب في مصلحة الحكومة. فكثير من مستندات العقود لم تُنشَر بعد، على رغم الوعود بالإفصاح عنها، وعلى الرغم من أن القانون ينص على وجوب نشرها خلال 30 يوماً. وحتى المستندات القليلة المنشورة، قد خضعت لعملية إخفاء المعلومات.
يقول نيك ديفيس بهذا الخصوص "إن التبرير المقدم بهذا الخصوص ضعيف جداً، جداً. فلينشروا البيان المتعلق بمنح العقد، فالأمر ليس صعباً. إن الأكثر صعوبة الدفاع عن الحكومة إن لم تكن شفافة بخصوص ما تفعله".
ويقول خبير المشتريات بيتر سميث، إنه يجب أن نقلق من المسار الذي تتبعه الحكومة.
ويضيف، "القلق الذي ينتابني مرده إلى أن الحكومة استمتعت بعدم الحاجة إلى المرور بعمليات شراء عسيرة، وتعتقد أنه مع مغادرتنا الاتحاد الأوروبي، يسعنا أن ننسى القواعد والتنظيمات، ولتكن المشتريات نتيجة لتحرك سريع، و(تعتقد) أنها ستنال تالياً دعم الشركات البريطانية.
"وإذا نظرتم إلى كيفية نجاح الاقتناء (التجاري) حول العالم، المستند إلى معايير قومية، فهو إما يغطي تقريباً "دائما"، فساداً موجوداً، أو يؤدي إلى تفاقم الفساد".
© The Independent