منذ البداية لا مهرب من تنحية الكتاب الضخم والمدهش، الذي كرسته منشورات "طاشن" الألمانية/ العالمية لسيارة "فيراري" الإيطالية وتاريخها جانباً، وعدم إدخاله في لعبة التنافس لتحديد ما هو الكتاب الأغلى في العالم اليوم. ولا بد كذلك من توضيح أننا لا نتحدث هنا عن تلك الكتب القديمة النادرة، التي تُتداول في سوق المقتنيات المتحفية كقطع يمكن أن تكون ملاذاً مالياً آمناً، بل عن كتب "عادية" تُنشر بألوف النسخ، وتباع في المكتبات لقراء "عاديين". صحيح أن كتاب سيارة "فيراري" هو الأغلى نظرياً، حيث إن النسخه الأكثر فخامة، تباع الواحدة منها بنحو ثلاثين ألف دولار، وثمة نسخ أكثر عدداً بقليل، تباع واحدتها بستة آلاف دولار لـ... الذين لا يمكنهم دفع ثمن النسخة بالغة الفخامة المزودة بطاولة قراءة خاصة صنعت من النايكل.
منفى من ذهب
هذا صحيح، ولكن هل يمكن اعتبار هذا "الكتاب" كتاباً حقاً؟ هل يمكن أن يكون أحد مشترييه قد فتح صفحاته التي تزيد على 500 صفحة بقياس أكثر من 32 سمX 43 سم، ليقرأ النصوص حقاً؟ لسنا وحدنا طبعاً من يشك في ذلك. وبهذا يفقد الكتاب الأفخم في التاريخ صفته "الفكرية" مخلياً المكان الأول لكتاب آخر، لم يكن من الصدفة أن تكون نفس دار "طاشن" هي التي أصدرته أيضاً، و"خفضت" سعر النسخة الأكثر فخامة منه إلى... اثني عشر ألف دولار. فلهذا الكتاب ميزة تجعله متفوقاً على الكتاب الأول، فيه نصوص مدهشة للقراءة، هي في الأصل تلك المعلقات التيبتية الشهيرة التي تحمل تاريخ وطقوس وأخبار جماعة الدالاي لاما،لا سيما حكايات نضالهم طويل الأمد ضد الجار الصيني، الذي انتهى به الأمر إلى احتلال بلادهم الواقعة بين الصين والهند، وإرسال زعيمهم إلى المنفى.
لكن إذا حكمنا من خلال هذا الكتاب، سيبدو منفى ذهبياً بالغ الفخامة والنخبوية أيضاً. فالدار حددت عدد النسخ المطبوعة من الكتاب بنحو ألف نسخة ملونة تُرفق كل واحدة منها بطاولة خشبية فخمة، إضافة إلى لوحة مما في الكتاب ترفق منفصلة وتحمل توقيع "صاحب القداسة" الدالاي لاما نفسه، الذي كان هو على أية حال نجم حفلة إطلاق الكتاب قبل سنوات في المركز الرئيس لمنشورات "طاشن"، التي لن يفوتنا أن نتحدث عنها بعد سطور. إذ إن لها هي الأخرى حكاية مدهشة ومغامرة في عالم النشر لا مثيل لها. ولنعد هنا إلى الكتاب!
رحلة فاتنة في عالم منسيّ
الكتاب هو أشبه بأن يكون رحلة عجيبة فاتنة بألوانها وغنية بنصوصها في ما يسمى في الكتاب الذي وضعه توماس ليرد، كنوز التيبت، التي يؤكد المؤلف أن كثيراً منها يبقى خفياً عن العيون مخبأً في أماكن سرية "قد يفشل المحتل نفسه في العثور عليها على رغم أن معظمها لا يزال داخل أراضي التيبت". وتقول دار النشر إن هذا العمل الذي استغرق جمعه وإنجازه وضبط رسومه ونصوصه سنوات طويلة، قُدم "للمرة الأولى إلى قداسة الدالاي لاما في ربيع عام 2018 في مدينة داراماسالا الهندية، مقر زعيم التيبت في منفاه المؤقت". ويومها قام بنديكت طاشن، صاحب الدار ومؤسسها برحلة استغرقته آلاف الأميال لتقديم النسخة للزعيم التيبتي، الذي يحمل الرقم 14 بين زعماء تلك المنطقة من العالم من الذين يجري اختيارهم واحداً بعد الآخر من أي مكان في العالم فيُدربون منذ طفولتهم ويُجهزون لتسلم ذلك المنصب الرفيع، الذي هو منصب ديني بقدر ما هو منصب سياسي وضمانة أخلاقية لشعب مسالم لم يعرف الراحة منذ فتح التنين الصيني عينه عليه، واحتلال أرضه وتدمير معابده ونهب القسم الأكبر من كنوزه.
مهما يكن من أمر لا بد من الإشارة هنا إلى أن بدء العمل على هذا الكتاب الضخم، الذي تفخر منشورات "طاشن" أنه نال بركة الدالاي لاما منذ إنجاز طباعته، قد تزامن مع مرحلة راحت فيها الأعمال الفنية والأدبية تظهر تباعاً، لا سيما عبر أفلام سينمائية حمل واحدها مثلاً توقيع مارتن سكورسيزي ("كوندون") وقام ببطولة واحد آخر منها النجم الهوليوودي براد بيت ("سبع سنوات في التيبت")، ووصلت ميزانية أي واحد منها إلى ملايين الدولارات، بحيث تساءل كثر عمن ينفق على تلك الأعمال الفنية البديعة. ومن المنطقي أن تكون الأسئلة نفسها قد أُثيرت بصدد هذا الكتاب، الذي يرى البعض أن كلفته لاتقل عن كلفة أي فيلم من تلك الأفلام متسائلين بدهشة عمن يمكنه شراء نسخة منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في كل المدن واللغات
المهم بالنسبة إلى موضوعنا هنا أن الكتاب موجود ويمكن اعتباره أغلى كتاب حقيقي أنتجته دار نشر في هذا الزمن، الذي يشتهر بكونه صعباً على عالم الثقافة. بيد أن منشورات "طاشن" لا تؤمن كما يبدو بهذه الصعوبة، فهي في الوقت نفسه الذي لا تتوقف فيه عن إصدار كتب زهيدة الثمن، مقارنة مع ما تتسم به من فخامة (مثلاً أقل من عشرة دولارات لكتاب فخم وجميل عن المعمارية الريطانية/ العراقية الراحلة زها حديد، يزدحم بالصور والمعلومات ضمن سلسلة من أبرز المعماريين في العالم، بيع من كل كتاب منها عشرات ألوف النسخ بسبع لغات تنشر "طاشن" بها نفس الكتب، علماً بأن الدار نفسها أصدرت كتاباً فخماً آخر عن حديد، يبلغ ثمن النسخة منه أكثر من ألف دولار)، في نفس الوقت تنشر تلك الكتب الضخمة التي يصل ثمن النسخة منها إلى عشرة آلاف دولار وأكثر و....تنفد نسخها بسرعة (لم تعد هناك نسخ متوفرة من كتاب عن محمد علي كلاي، زاد ثمن النسخة منه على ألفي دولار، أو آخر عن موسيقى الجاز يماثله في السعر)، وهذا ما يجعل تلك الدار نخبوية إلى أقصى الحدود، وشعبية بشكل لا يصدق. ويمكننا أن نقول اليوم، إن بيتاً في أوروبا وأميركا أواليابان وكوريا الجنوبية لا يكاد يخلو اليوم من رفوف كتب من إصدار تلك الدار. بل حسب المرء أن يزور إحدى مكتبات "طاشن" المنتشرة اليوم في ما لا يقل عن عشر مدن في العالم، من نيويورك إلى طوكيو ومن باريس إلى لندن، وكلها من تصميم المعماري فيليب ستارك، الذي خصته الدار بواحد من كتبها، حتى يدهشه ازدحام الهواة المشترين في مجالات الهندسة المعمارية والسينما والفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي... إلى آخر ما هناك من فنون بصرية تتيح للناشر أن يملأ كتابه بالصور الرائعة المطبوعة على ورق بالغ الفخامة. فما الحكاية؟ وكيف بدأت المغامرة؟
مغامرة تكاد لا تُصدق
بكل بساطة بدأت الحكاية عند بدء سنوات الثمانين من القرن العشرين، مع مناضل شاب من مناضلي ربيع أوروبا الستينيات، وقد انتهى يائساً من مرحلة الصبا والنضال، ليجد نفسه خالي الوفاض دون عمل ودون أية آفاق مستقبلية ودون رأسمال ينطلق به في عمل يقيه العوز. فما العمل؟ تذكر بنديكت طاشن، وهو اسم ذلك الشاب، أن لديه في قبو بيته ألوفاً من كتب الشرائط المصورة التي كان يشتريها ويجمعها منذ صغره، وأنه قد لا يكون في حاجة إليها اليوم، ولم يعد يملك مكاناً يضعها فيه. فاستقر رأيه على بيعها بالجملة ففعل. وهو بذلك المبلغ اليسير قرر أن يخوض مهنة النشر ببساطة إنما بجمال مطلق، وهكذا راح ينشر أول الأمر كتباً مصورة ملونة عن كبار الفنانين في تاريخ البشرية، تباع بأسعار زهيدة على نطاق واسع.
وحدثت المعجزة الصغيرة، نجحت السلسلة في الألمانية أولاً، ففتح مكتبة متواضعة في مدينته كولن. ثم اكتشف الإنجليز والفرنسيون تلك السلسلة فراحت تُترجم إلى لغاتهم وتباع بكميات مدهشة وغير متوقعة. واللافت أن أناقة الإخراج والطباعة كانت توحي للمشتري أنه يدفع أقل من كلفة الكتاب، بالتالي صارت السلسلة سلاسل، وراح طاشن يتوسع ويتوسع وينوع منشوراته، لتشمل حلقة تمتد من "ألف ليلة وليلة" إلى إعادة طباعة مجموعة مجلة "بلايبوي" مروراً بمكتبة كاملة عن الهندسة المعمارية... ثم السينما ففنون التصميم والإعلان وكتب الرحلات... واليوم ها هم كثر يحاولون تقليد "طاشن"، وينجحون بحيث يفخر المناضل اليساري السابق بأنه الرجل الذي أعاد إحياء فن الكتاب!