تجاوزت الرسائل الحادة التي وجهها قادة كل من مصر واليونان وقبرص، الأربعاء، 21 أكتوبر (تشرين الأول)، خلال القمة الثامنة لآلية التعاون بين البلدان الثلاثة حدود التعاون الرئيس القائم بينهم منذ سنوات في مجال استغلال اكتشافات الغاز الضخمة في شرق البحر المتوسط، في ظل توتر علاقات الدول الثلاث مع تركيا، لتشمل هجوماً حاداً على مجمل مواقفها وسياساتها في المنطقة، بما في ذلك إشكاليات علاقة أنقرة بالاتحاد الأوروبي وغيرها، مع تعهد بالتصدي "لاستفزازاتها وانتهاكاتها" في منطقة شرق المتوسط والتأكيد المشترك على رفض وجودها العسكري في ليبيا وسوريا وعمليات نقل المقاتلين الأجانب إلى ساحات الصراع، بما في ذلك إقليم ناغورنو قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، وذلك في ختام القمة التي استضافتها هذه المرة العاصمة القبرصية نيقوسيا، ووصفها رئيسها نيكوس أناستاسيادس بأنها "ليست موجهة ضد أحد".
وبينما أكد "إعلان نيقوسيا" التصدي للاستفزازات في شرق المتوسط، قال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إن القمة الثلاثية ناقشت الأمن الإقليمي. ودان الممارسات التركية في شرق المتوسط، مشيراً إلى أن أنقرة تمارس سياسة استفزازية تتسبب بمخاطر كبيرة في المنطقة، وأضاف أن أنقرة تتبع سياسة توسعية تهدد المنطقة بأكملها، من خلال مواصلة انتهاك القانون الدولي وتقويض القانون، لافتاً إلى أن هذه الممارسات أدت إلى مشكلات كثيرة داخل حلف "الناتو".
التصدي للاستفزازات التركية
وقال أنستاسيادس إنه "في الوقت الذي يعمل الجميع على إرساء الأمن في شرق المتوسط، تقوم تركيا بممارسات غير قانونية تؤدي إلى تقويض الاستقرار الإقليمي"، مضيفاً أن "من بين هذه الممارسات استمرار أنقرة في إرسال مرتزقة إلى سوريا وليبيا وأذربيجان، فضلاً عن قيامها بانتهاك الحدود السياسية في البحر المتوسط".
يذكر أن تركيا تنفي أي علاقة في إرسال مقاتلين إلى ليبيا وأذربيجان لكنها في بدايات الثورة ضد نظام الأسد دعمت مجموعات مسلحة للإطاحة بالأسد وتقلص دور هذه المجموعات تدريجيا على مر السنين.
واعتبر عمليات التنقيب التي تقوم بها تركيا في منطقة شرق المتوسط غير شرعية، مشدداً على ضرورة احترام السيادة لكل دولة وفق الاتفاقات الدولية.
وجاءت القمة السنوية وسط تصاعد التوترات بين تركيا من جهة، واليونان وقبرص من جهة أخرى، خصوصاً بعدما وقعت أثينا في أغسطس (آب) الماضي اتفاقاً بحرياً مع مصر لتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين، تبعه توقيع ميثاق تحويل منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية، ما ترفضه أنقرة، وسط مساعٍ من جانب دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لإجراء مباحثات من أجل تهدئة الصدام بين تركيا واليونان، العضوين في الحلف، بعد ما وصل التوتر خلال الأسابيع الماضية إلى حد التحرش العسكري.
وقال الرئيس القبرصي إن "العلاقات بيننا لا تأتي ضد أي دولة ولكن بالعكس، تهدف إلى السلام والاستقرار والأمن في شرق البحر المتوسط، على أساس القانون الدولي بما في ذلك قانون البحار وأيضاً علاقات حسن الجوار"، مشيراً إلى الاتفاق على إنشاء أمانة دائمة للتعاون في ما بين الدول الثلاث، يكون مقرها نيقوسيا.
الرد التركي
وانتقدت تركيا البيان الختامي لاجتماع القمة الذي عقد في نيقوسيا بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره القبرصي نيكوس اناستاسيادس ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس.
وشددت الخارجية التركية في بيان على رفضها التام لفحوى بيان قمة نيقوسيا، واعتبرت أن تلك الوثيقة تضم "اتهامات ومزاعم لا أساس لها من الصحة ضد تركيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أن مصر واليونان وقبرص دانت بشكل قاطع ما تقوم به تركيا وطالبتها بضرورة احترام هذه المنطقة وتخفيف التوتر، لافتاً إلى أن توقيع أنقرة اتفاقيات لترسيم حدود مع رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية غير شرعي تماماً، وداعياً إلى ضرورة احترام الحقوق السيادية لكل دولة تملك حدوداً بحرية في البحر المتوسط.
كما تطرقت المباحثات الثلاثية إلى آخر التطورات على الساحة الإقليمية، من بينها المستجدات في سوريا وليبيا وقره باغ، فضلاً عن تطورات أزمة سد النهضة في إثيوبيا. وعبرت الدول الثلاث عن قلقها من عدم التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف خلال مباحثات الاتحاد الأفريقي.
وفي شأن الأزمة القبرصية التركية، قال الرئيس القبرصي إنه وجه دعوة إلى زعيم القبارصة الأتراك لعقد اجتماع غير رسمي، في محاولة للتوصل إلى حل شامل للأزمة.
بدوره، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أهمية تضافر جهود جميع دول شرق المتوسط لمواجهة التحديات التي تهدد المنطقة واستعادة الاستقرار فيها. كما تم التوافق بين الرؤساء الثلاثة على أهمية العمل المكثف للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة في إطار الحفاظ على وحدة واستقلال دول المنطقة وسلامتها الإقليمية، بما يسهم في إنهاء المعاناة الإنسانية الهائلة التي مرت بها هذه الشعوب خلال السنوات الماضية.
وفي ما يتعلق بالسياسات التركية، قال السيسي إن القمة الثلاثية شهدت "مناقشات بناءة عكست توافقاً في الرؤى حول التطورات الإقليمية والدولية، خصوصاً في منطقة شرق المتوسط، في ضوء السياسات الاستفزازية المتمثلة في انتهاكات قواعد القانون الدولي والتهديد باستخدام القوة المسلحة والتعدي على الحقوق السيادية لدول الجوار ودعم التطرف والإرهاب ونقل المقاتلين الأجانب إلى مناطق النزاعات. واتفقنا على ضرورة التصدي لتلك السياسات التصعيدية التي تزعزع استقرار المنطقة، إضافة إلى التنسيق مع الشركاء الدوليين لاتخاذ ما يكفل من إجراءات للحفاظ على متطلبات الأمن الإقليمي".
وأشار إلى إدانة الدول الثلاث لأي وجود عسكري غير مشروع على الأراضي السورية أو أي مساعٍ لتغيير التركيبة السكانية في مناطق الشمال السوري، إلى جانب دعم وحدة سوريا وسلامتها الإقليمية وأهمية الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية وضرورة خروج كل القوات الأجنبية منها وتفكيك الميليشيات الإرهابية ونزع أسلحتها وإعادة توحيد مؤسسات الدولة.
وأوضح السيسي أن القمة أشادت بالجهود المصرية لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية واستضافة أكثر من خمسة ملايين لاجئ يتمتعون بالحقوق والخدمات الأساسية المتاحة للمواطنين المصريين ووقف تدفقات الهجرة غير الشرعية من سواحلها منذ عام 2016 اعتماداً على قدراتها الذاتية وانطلاقاً من مسؤوليتها الأخلاقية، بخاصة أن القاهرة لم تلجأ في أي مرحلة إلى استخدام هذه المسألة كأداة للتفاوض أو الابتزاز مع شركائها الأوروبيين لتحقيق استفادة مادية أو سياسية.
الطاقة محور التعاون
من جانبه، أشار الرئيس القبرصي إلى أن مجال الطاقة "يعد أحد أهم مجالات التعاون في الآلية الثلاثية"، مضيفاً، "وفي هذا الإطار، إننا نرحب بتوقيع الوثيقة التأسيسية لمنتدى غاز شرق المتوسط ومنظمة إقليمية لتنسيق سياسات الطاقة بين الدول السبع المؤسسة لهذا المنتدى".
وقال أناستاسيادس إنه تم التأكيد على أهمية الربط الكهربي بواسطة "كابل يورو أفريقيا إن كونكتور" بين الدول الثلاث، وهو مشروع يدعم أمن الطاقة ليس فقط للدول المشاركة ولكن أيضاً بالنسبة إلى أوروبا، حيث كان الموقف مشتركاً لجهة أهمية زيادة الجهود المبذولة من المجتمع الدولي لمكافحة الإرهاب والتطرف، وتضمن اتخاذ إجراءات محددة ضد من يدعم المنظمات الإرهابية بالسلاح والمقاتلين".
واعتبر الرئيس المصري أن آلية التعاون الثلاثي انفردت بكونها "قدمت نموذجين ناجحين لتعيين الحدود البحرية، استناداً إلى قواعد القانون الدولي وبنود اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، إذ وقعت مصر مع كل من قبرص واليونان اتفاقيتين في هذا المجال، ما يعكس الإرادة السياسية المشتركة الهادفة إلى الاستفادة من الثروات المتاحة، بخاصة احتياطات النفط والغاز الواعدة وفتح آفاق جديدة لمزيد من التعاون الإقليمي في مجال الطاقة".
من جانبه، كشف المتخصص في شؤون الطاقة سيريل ويديروشوفين أن القمة بين مصر واليونان وقبرص مثلت تكريساً للتعاون القائم بين البلدان الثلاثة من خلال آلية التنسيق المشترك، خصوصاً في مجال الغاز أو من خلال كونها أعضاء مؤسسة لمنظمة غاز المتوسط التي وقّع على ميثاقها التأسيسي قبل أسابيع فقط من هذه القمة. ولكن اللافت هو الرسائل السياسية التي توجهها هذه الدول إلى تركيا، التي لا يمكنها حل النزاعات والمزاعم القائمة حول المناطق الاقتصادية الخالصة إلا من خلال الحوار مع أعضاء هذا التكتل الإقليمي الذي تقوده مصر، وتدعمه عضوية ست دول مؤسسة، إضافة إلى الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي كمراقبين.
نموذج للتعاون
وقالت سفيرة مصر لدى قبرص مي طه خليل لـ"اندبندنت عربية" إن القمة جاءت لتأكيد ما تطرحه الدول الثلاث على شركائها في شرق المتوسط من نموذج ناجح للتعاون في تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الإقليمية من أجل الرخاء المشترك، بدلاً من تحوله إلى موضوع للصراع الإقليمي من خلال الانخراط في ممارسات تتنافى مع قواعد القانون الدولي. وهو ما خاطبته القمة عبر تأكيدها على تصميم الدول الثلاث على التصدي للتدخلات والممارسات غير القانونية التي أثارت التوترات في شرق المتوسط، فضلاً عن التشديد على استمرارها في تنفيذ المشاريع المشتركة في مجال الطاقة وغيرها، إذ أصبحت آلية التعاون الثلاثي محفلاً استراتيجياً لتبادل الرؤى، وأسهمت في مزيد من التعاون في مجالات الزراعة والسياحة والنقل والطاقة والثقافة، إلى جانب التعاون في مواجهة التحديات المشتركة مثل الهجرة غير الشرعية.
بدوره، أشار جمال القليوبي، أستاذ هندسة البترول والطاقة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى أن مصر وقبرص واليونان قادرة على توصيل الغاز الطبيعي المكتشف إلى أوروبا من خلال المشاريع القائمة، فضلاً عن أهمية تكامل ذلك مع الربط الكهربائي، بما يمكن مركز الطاقة الإقليمي الذي تأسس من أجله منتدى غاز شرق المتوسط من فتح سوق واعدة أمام هذا المورد المهم، لكن تداعيات كورونا وغيرها من العوامل السياسية مثل التوترات في المتوسط ربما تمثّل تحدياً أساسياً أمام هذا الطموح، وهو ما سعت تلك القمة إلى التعامل معه مباشرة عقب تدشين منظمة غاز شرق المتوسط.
واعتبرت المحللة الأميركية إيرينا تسوكرمان أن اتجاه الدول الثلاث إلى تأكيد تعاونها في مجال أمن الطاقة والأمن الإقليمي ومواجهة التدخلات الخارجية، يمثل انعكاساً لحالة التوتر الناجمة عن استبعاد تركيا نتيجة عدم قبولها الدخول في مفاوضات من دون شروط مسبقة، لا يشكل انتهاكاً لحقوق قبرص واليونان، مؤكدة صعوبة الوصول إلى نتيجة ملموسة لمساعي الحوار القائمة مع أنقرة نتيجة ارتباطها بأزمات مزمنة مثل انقسام قبرص والتوترات الحدودية والتاريخية مع اليونان.
المنطقة المتنازع عليها
وقالت تركيا إنها مددت بقاء سفينة المسح "أوروتش رئيس" التابعة لها وسفينتين أخريين في المنطقة المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط حتى 27 أكتوبر في خطوة من المرجح أن تزيد تصعيد التوتر في المنطقة.
وأفادت البحرية التركية في إشعار بحري بأن السفينتين الأخريين، "أتامان" و"جنكيز خان"، ستواصلان العمل إلى جانب "أوروتش رئيس" في منطقة جنوب شرقي جزيرة رودس اليونانية حتى 27 أكتوبر، وكان من المقرر من قبل أن تعمل السفن الثلاث حتى 22 من الشهر الجاري.
عمليات التنقيب
وفي وقت سابق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده استأنفت عمليات التنقيب عن موارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، ولفت إلى أن تركيا استأنفت عمليات التنقيب عن المحروقات في منطقة متنازع عليها شرق المتوسط، غداة توقيع اتفاق بحري بين أثينا والقاهرة نددت به أنقرة.
أضاف أردوغان "استأنفنا عمليات التنقيب وأرسلنا من جديد بهذا الهدف (سفينة المسح الزلزالي) بارباروس خير الدين في مهمة"، إلا أن الرئيس التركي أشار إلى أن اليونان لم تلتزم بتعهداتها المتعلقة بالتنقيب عن موارد الطاقة في المنطقة.