منذ تنصيب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة وإلقائه خطابه الذي أوضح فيه أهم الخطوط العريضة لسياسة إدارته، ودول جنوب شرق آسيا تترقب ما ستفعله الإدارة الجديدة، خصوصاً تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية بالانسحاب من اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، التي كانت محور سياسة الرئيس السابق باراك أوباما، ووقعت من جانب 12 دولة.
وشهدت العلاقات بين واشنطن وجنوب الشرق الآسيوي تذبذباً. ففي الوقت الذي أكدت فيه الإدارة الأميركية احترامها دول آسيان في خلافاتها مع الصين على بحر الصين الجنوبي، فإن التباعد التجاري والاقتصادي فتح مجالاً للتنين الصيني ليملأ الفراغ الذي تركته الإدارة الأميركية خلال السنوات الأربع الماضية.
أهمية آسيان لأميركا
لمنطقة آسيان أهمية تجارية واستراتيجية كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تتمثل في حركة التجارة الضخمة بين دول مجموعة آسيان وأميركا، إذ تعد الأولى المستوردة الرابعة للمنتجات والخدمات الأميركية بنسبة تخطت خمسة في المئة من مجمل صادرات واشنطن، مما جلب أكثر من نصف مليون وظيفة في الولايات المتحدة.
وتنبع الخصوصية الاستراتيجية والعسكرية من موقع الدول المطل على عدد من الممرات البحرية الدولية المهمة، التي تربط بين الهند والمحيط الهادئ من جانب، ومدينة نيو أورلينز الأميركية وشمال شرق آسيا من جانب آخر، مما يجعلها ممراً مهماً لنقل البضائع الأساسية، مثل النفط.
وخلقت الأهمية الاستراتيجية للموقع ميزة عسكرية بالنسبة إلى النسر الأميركي، فالمضائق والممرات المائية التي تطل عليها منطقة آسيان لديها أهمية جيوسياسية ولوجيستية، خصوصاً الأماكن التي تتمركز فيها القوات الأميركية، التي تتيح لها إمكان التحرك في منطقة المحيط الهادئ والهندي وحتى الخليج العربي.
تباعد تجاري
ومن الملاحظ أن توجه إدارة ترمب وسياسته الخارجية مختلفان في المنطقة عن الرئيس السابق باراك أوباما، فقد بدأ الأول ولايته بالانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهو اتفاق يهدف إلى زيادة حرية التجارة والاقتصاد بين دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ، الذي ضم دولاً عدة قبل انسحاب الولايات المتحدة الأميركية، مما خلق تحفظاً من الحكومات في جنوب شرق آسيا تجاه سياسات واشنطن الجديدة ونظرتها إلى منطقة آسيان.
ووصف الدبلوماسي الأميركي مايكل ماكفول انسحاب ترمب من شراكة المحيط الهادي بـ "الخطأ الكبير"، معللاً ذلك بأهمية منطقة آسيان، وتسارع نموها الاقتصادي، وحاجة الولايات المتحدة إلى شركاء في جنوب شرق آسيا، مؤكداً أن التجارة بين واشنطن ودول آسيان يمكن أن تكسبها ترابطاً حقيقياً بجنوب شرق آسيا.
بينما تؤكد صحيفة "بانكوك بوست" أن مفتاح التقارب بين أميركا والمنطقة يكمن في التجارة، كما أن انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، وهي النسخة المعدلة من اتفاق الشراكة مع المحيط الهادئ، يمكنه أن يكسبها فرصة لترويج نموذج أعمال جديد يجابه نظيره الصيني.
كما أوردت "فورين بوليسي" تقريراً يؤكد أن الاستثمار في دول الآسيان هو "الطريقة المثلى" لخلق علاقات قوية مع تلك المنطقة، وتبين أن الصين استغلت حاجة مجموعة آسيان إلى مشاريع كبرى، ومدت حبال الثقة معهم من طريق إقامة مشاريع ضخمة، مثل طريق الحرير البحري ومشروع الحزام والطريق، وهو ما تحتاجه الولايات المتحدة.
ويعضد التقرير تصريح رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد أواخر عام 2019، الذي قال إنه يصعب على بلاده تحمل كلفة خطوط المترو، وأن علينا التوجه إلى الصين شئنا أم أبينا.
وانتقد نائب التمثيل التجاري السابق في الولايات المتحدة الأميركية ويندي كولتر، نهج ترمب في التعامل مع بلدان المنطقة التي كانت لها نتائج محدودة في كبح جماح ممارسات الصين التجارية التي وصفها ويندي بـ "غير العادلة".
نهاية الهيمنة الأميركية
وكان لغياب الرئيس ترمب عامي 2018 و2019 عن قمة دول آسيان والولايات المتحدة الأميركية، التي تعقد سنوياً منذ عام 2009، وتضم قادة الدول وأميركا، نقطة توتر في العلاقات بين جنوب شرق آسيا والولايات المتحدة.
وفي المقابل، التزمت إدارة أوباما بالحضور الدوري لتلك القمم طوال الفترة الرئاسية، بينما وصف البعض هذا الغياب بالتجاهل المتعمد النابع من سياسة البيت الأبيض الجديدة لمنطقة آسيان. ويرى مراقبون أن الغياب الأميركي عن حضور قمة مجموعة دول آسيان يؤكد سياسات ترمب المتخبطة تجاه المنطقة، وهي بمثابة نهاية لحقبة الهيمنة الأميركية على منطقة آسيان، مع تزايد القوة الصينية جنوب شرق آسيا.
وأوردت الصحف التايلندية أن حكومتها التي استضافت قمة آسيان العام الماضي، أصيبت بالحرج إزاء غياب ترمب عن القمة، وخفض التمثيل الدبلوماسي للولايات المتحدة منذ عام 2011، مما انعكس على رد الفعل الآسيوي، إذ وصف أحد كبار الدبلوماسيين في تايلاند هذا الفعل الأميركي بـ "الخرق المتخبط لقواعد البروتوكول والدبلوماسية".
وفي محاولة من الإدارة الأميركية لإصلاح الوضع المتوتر الناتج من غياب الرئيس ترمب عن قمة العام السابق، دعت الولايات المتحدة قادة آسيان إلى عقد قمتهم المقبلة التي كانت مقررة العام الحالي في لاس فيغاس، لكنها تأجلت بسبب الوضع العالمي المتأزم بسبب فيروس كورونا.
واشنطن أو بكين
ومع توتر العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، بدأت الإدارة الأميركية انتهاج سياسة تخيير دول آسيان بين واشنطن وبكين. وعلى الرغم من وجود دول حليفة لواشنطن في آسيان، فإنها كانت تسعى إلى كسب مزيد من الحلفاء الذين يقفون ضد الصين، ويتسمون بولاء كامل لواشنطن. فقد أكد الرئيس ترمب سابقاً حصول حلفاء الولايات المتحدة على امتيازات من واشنطن من دون تقديم أية مساعدات.
هذا الاختيار صعب وغير منطقي وسط رفض القادة السياسيين في جنوب شرق آسيا، باعتبار الصين بلداً مجاوراً لهم، وهناك كثير من الشراكات في عدد من المشاريع في معظم بلدان جنوب شرق آسيا، كما يقول خبير الأمن السنغافوري كولين كوه، إنه "ليس لدى آسيان أية نية في التحيز إلى جانب دون الآخر، أو رؤية ذلك يحدث".
وتؤكد المدير التنفيذي لمؤسسة كمبوديا للتعاون والسلام بو سوثيراك أن "الولايات المتحدة لم تصمم أبداً سياسة خارجية قوية ومركزة، خصوصاً تجاه دول آسيان أو بعض الدول الأعضاء، وكمبوديا مثال على ذلك. وإذا كانت لدى واشنطن سياسة محددة، فإن سياستها تجاه جنوب شرق آسيا لم تتسم بالاتساق ودائمة التغير".
علاقات متباينة
لكن على الرغم من التوتر الذي شهدته العلاقات الأميركية مع دول آسيان في بعض الأحيان، فإن الإدارة الحالية لا تزال داعمة للدول المتنازعة مع الصين على بحر الصين الجنوبي. فقد أوضحت صحيفة "آسيا تايمز" أن واشنطن خلال عهد ترمب اقتربت أكثر من فيتنام، وأن المطالبة الأخيرة من جانب إندونيسيا والفيليبين وماليزيا وفيتنام للمحكمة الدولية الدائمة للتحكيم في قضية النزاع على بحر الصين الجنوبي، خطوة توضح جلياً وقوف الولايات المتحدة إلى جانب دول آسيان وغيرها في هذا النزاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أثنت فيتنام، الدولة الحليفة لواشنطن، على اتفاق "كواد" الذي ضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند كقوة متكاتفة في مواجهة الصين عبر منطقة بحر الصين الجنوبي، بهدف إبقاء إقليم المحيط الهادئ الهندي منطقة حرة ومفتوحة بعيدة عن إكراه الصين.
وقال وزير الخارجية الفيتنامي إن دولته ترحب بإسهامات الولايات المتحدة البنّاءة والمسؤولة في مجهودات آسيان، لخلق السلام والاستقرار والتطوير في بحر الصين الجنوبي.
ويرى مراقبون أن على واشنطن الإكثار من جهودها الدبلوماسية مع دول المنطقة، وإجراء لقاءات مباشرة مع الشركاء الإقليميين، والاهتمام أكثر بالحضور الرئاسي في قمم آسيان المقبلة، لضمان تقوية علاقاتها بدول المجموعة.
كما أن علاقات أميركا في فترة ترمب الحالية مع تلك الدول ركزت بشكل كبير على "الجانب العسكري والاستراتيجي المرتبط بصراعها مع بكين"، وإغفالها جانباً مهماً، وهو الاقتراب من طريق الاستثمار والتجارة الحرة التي كانت ستكسبها نقاطاً أكثر.