لبنان تعلّم الدرس باللحم الحيّ منذ معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل: رأس الحكمة أن يكون آخر بلد عربي يوقّع سلاماً مع إسرائيل، التي راهنت على أن يكون البلد الثاني بعد مصر. حين ذهب إلى واشنطن، بعد مؤتمر مدريد، مثل سوريا والأردن والفلسطينيين للتفاوض مع تل أبيب، كانت التعليمات لرئيس الوفد اللبناني السفير سهيل الشماس هي: لا اتفاق، مماطلة إلى أن تسترد سوريا الجولان. ويروي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في مذكراته "حياتي" تفاصيل ما تفاهم عليه مع الرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف، وما دار في مفاوضات شيبرزتاون بإشرافه المباشر بين وزير الخارجية السوري فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ثم المفاوضات في واي بلانتيشن بين الشرع وبنيامين نتنياهو. في جنيف، التزم الأسد "صنع سلام وإقامة علاقات عادية مع إسرائيل مقابل الانسحاب من الجولان. والانسحاب من لبنان واحترام استقلاله عند التوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي -الإسرائيلي".
مرونة
وكان تعليق كلينتون أن "السوريين أظهروا مرونة لم تردّ عليها إسرائيل ولن يكرروا الغلطة". وفي شيبرزتاون، قالت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لباراك، "السوريون كانوا مرنين تجاه كل ما طلبتموه، لكنكم لم تقدّموا شيئاً، فماذا تريد؟". قال "أريد معاودة المفاوضات مع لبنان". وعندما جرى إبلاغ الشرع، المصرّ على أن ينتظر لبنان سوريا، بما دار قال، "باراك ليس جدّياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يزال لبنان على الموقف ذاته: لا اتفاق مع إسرائيل قبل كل العرب، وإن كان اتفاقه هو الأسهل. وليس مستعجلاً على أي سلام أو اتفاق حتى وهو يفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل برعاية الأمم المتحدة ووساطة أميركا. وهو يبدو اليوم، وسط التطورات التي تسبقه، كأنه الجندي الياباني الذي وجدوه في الغابة حاملاً سلاحه بعد ثلث قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية، بحجّة أن أحداً لم يخبره أن الحرب انتهت وعليه تسليم سلاحه. حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي وصفها الرئيس أنور السادات بأنها "آخر الحروب" وسمّاها الرئيس الأسد "الحرب الناقصة"، كانت بالفعل نهاية الحروب العربية -الإسرائيلية الكبيرة. ومبادرة السلام العربية التي وافقت عليها الدول العربية بالإجماع في قمة بيروت عام 2002 كانت تسليماً واضحاً بأن السلام هو "الخيار الاستراتيجي للعرب". وليست اتفاقات السلام بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، واستمرار الضغط الأميركي على السودان لعقد اتفاق مماثل، سوى إشارة إلى اتجاه الأحداث في المنطقة.
المحارب الوحيد
وعلى العكس، فإن لبنان المصادر لدور أكبر منه محكوم بأن يكون المحارب الوحيد أو شبه الوحيد لإسرائيل. فلا سوريا تقاتل لتحرير الجولان، الذي ضمته تل أبيب رسمياً باعتراف أميركي. ولا السلطة الفلسطينية أو حركة "حماس" في غزة تقاتل لتحرير فلسطين بصرف النظر عن الشعارات، أو حتى للضغط على إسرائيل من أجل التسوية بالنسبة إلى السلطة ومن أجل "هدنة لسنوات" بالنسبة إلى "حماس"، التي تُدار حولها مفاوضات سرّية. وفتّش عن قطر. والسؤال ليس هل يستطيع لبنان تحرير فلسطين من حيث فشل العرب جميعاً، بل هل تريد إيران بالفعل التي تموّل وتسلّح "حزب الله" تحرير فلسطين ومتى وكيف؟ وإلى أي حدّ يستطيع لبنان المأزوم المنهك أن يستمر حاملاً السيف والأرض تنهار من تحته وتركيبته السياسية عاجزة حتى عن تأليف حكومة؟ ماذا عن تأثر مرفأ بيروت بعد إعادة بنائه، بالتوجه العربي نحو مرفأ حيفا ومرفأ "أشدود"؟ وماذا عن خسارة الدور الذي كان لبنان المرشح الأول له في المنطقة، وهو "مزاوجة التكنولوجيا والتعليم"، بالتالي إنتاج "السوفت وير" للعالم العربي الذي يتطور اقتصاده خارج الاعتماد على النفط؟
الأجوبة مقلقة، لكنها ليست قدراً لا يردّ. والمخرج من هذا المأزق هو إعطاء الأولوية للمصلحة العليا والوطنية اللبنانية على أي اعتبار أو حساب آخر.