لم يؤثر عن الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني هانا آرندت اهتمام خاص بالفنون وبخاصة فن السينما. كان اهتمامها العام منصبّاً على الفكر السياسي وتقنيات الفلسفة وعلم الاجتماع. كانت تطل في بعض الأحيان على الآداب النخبوية إنما من خلال تلك الاهتمامات ومن هنا نراها تحلل أعمالاً لفرانز كافكا بشكل رائع، وتغوص في أدب هرمان بروخ من منظور فلسفي، وقد تهتم بخاصة بنقد والتر بنجامين الأدبي إن هي كتبت عنه، لكن هذا لم ينقلها ولو مرة واحدة إلى أي فن من الفنون وبدت كأنها لا تدري بوجود السينما كفن أساسي في القرن العشرين الذي عاشته وكانت من أهم راصديه. وحده تشارلي شابلن حظي باهتمامها ذات يوم فكتبت عنه نصاً جميلاً في سنوات الأربعين ضُمّ قبل سنوات إلى مجموعة دراسات ومقالات لها صدرت تحت عنوان "كتابات يهودية" فيما كان عنوان المقال "اليهودي كمنبوذ: تقاليد مخبوءة". والحال أن هذا المقال لم يكن ثمة غبار عليه حين كُتب، لكنه بعد ذلك، وحتى خلال السنوات الأخيرة من حياة هانا آرندت بات يبدو مضللاً. لماذا؟ ببساطة لأن الباحثين والمؤرخين أكدوا بشكل قاطع أن شابلن لم يكن يهودياً. فهل كان معنى هذا سقوط التحليل الذي بنته آرندت في مقالتها مستنداً إلى الاعتقاد القديم الذي كان سائداً وفحواه أن شابلن يهودي؟
بناء متماسك على أسس واهية
للوهلة الأولى سيبدو أن الجواب نعم. فكيف تُبنى نظرية إيديولوجية متكاملة على أساس خاطئ؟ كيف يمكن إيراد تحليل عميق حول شخصية اليهودي من خلال شخص لم يكن يهودياً بل لم يدّع ذلك في حياته؟ هذا للوهلة الأولى. ولكن في الحقيقة قد يمكن هنا ليّ عنق التحليل بعض الشيء، وتحديداً كما فعل على خطى آرندت مفكرون كبار من طينة مارسيل مارتان، صاحب واحد من أهم الكتب التي صدرت عن شابلن، أو من طينة رولان بارت الذي كتب تحليلاً لشخصية شارلو لا يدعي يهوديته إنما يبحث في تعبيره المقصود عن سمات اليهودي كما تجلت في الثقافة الغربية وصولاً إلى قيامه تحديداً بدور حلاق يهودي في فيلم "الدكتاتور" يؤتى به بديلاً لهتلر إذ يبدو التشابه بينهما مذهلاً.
بارت ومارتان لم يقولا أن شابلن كان يهودياً لكنهما ألمحا إلى تقمّصه شخصية اليهودي شكلاً ومضموناً. وإذا نظرنا بإنصاف إلى مقالة هانا آرندت ووضعنا في ذهننا تعامل مارتان وبارت مع شخصية تشارلو السينمائية، سنجد ما يمكّننا على أية حال من تبرير ما كتبته آرندت من حول شابلن رابطة إياه بشخصية اليهودي المعاصر. ولعل هذا التبرير هو ما دفعها إلى عدم إيراد أي تعديل لاحق على نصّ يبدو أساساً كأنه يحاول تهويد ذلك الفنان.
منبوذ الأزمنة الحديثة
جعلت آرندت نصّها تحت مظلة فكرة كانت تريد التعبير عنها مستخدمة الفنان في ذلك. ومن هنا كانت الفكرة الأساسية لديها تتمحور من حول "شارلو بوصفه منبوذ الأزمنة الحديثة" بحيث لا يعود شابلن هو اليهودي هنا، بل شارلو شخصيته على الشاشة، بصرف النظر عما إذا كان شابلن يهوديا أو غير يهوديّ.
تنطلق آرندت في مقالتها من قولها "على رغم أن غياب أي حسّ سياسي، والحفاظ على منظومة البرّ والإحسان المنهارة أصلاً بوصفها أساساً للوحدة الوطنية، قد منعا الشعب اليهودي من لعب دور فعال في الحياة السياسية المعاصرة، سنجد أن هذه القيم نفسها قد انزاحت بشكل استعراضي لتلهم واحداً من التعابير الأكثر فرادة في نتاج الفن الحديث، أي المتن السينمائي الذي أنتجه تشارلي شابلن. فلديه نلاحظ كيف أن الشعب الأقل شعبية في العالم كان هو الذي أنتج ذاك الذي جسّد لفترة طويلة من الزمن تلك الشخصية التي عرفت كيف تكون الأكثر شعبية في الزمن المعاصر. ولم يكن هذا لأن الشخصية بدت شخصية مهرج معاصر، بل لأنها جسدت انبعاث قيم ساد الإيمان بها فترة طويلة، قبل أن يُحكم عليها بالموت من قبل زمن الصراع الطبقي أي بالتحديد تلك المرتبطة بسحر الناس البسطاء الذي لا يقاوَم".
بين دافيد وغولياث
ترى آرندت أن شابلن قد صوّر منذ فيلمه الأول ذلك الوضع الخطير الذي يعيشه الإنسان البسيط الملاحَق على الدوام من جانب حراس القانون والنظام، كما من جانب ممثلي المجتمع، وبالتحديد "لأن النمط الذي يصوّره شابلن يعيش مشبوهاً في نظر المجتمع. هو يمكنه أن يكون على ألف خلاف مع العالم كما أن الصراعات التي يجابه هذا العالم بها يمكن أن تتخذ تنويعة عريضة من السمات، لكنه مشبوه في كل مكان وكل زمان، بحيث أن أية محاججة هنا حول عدالة هذا الاشتباه أو لا عدالته، لن تكون ذات جدوى إطلاقاً". وبالتالي فإنه "وقبل زمن طويل من ظهور مفهوم الآبارتايد (النبذ العنصري)، باعتباره الرمز الحي لوجود المنبوذ، وقبل أن يُرغم ألوف الرجال والنساء على الاتكال في سبيل بقائهم على دهائهم الخاص كما على ذكائهم وعلى المصادفة وعلى طيبة الآخرين، عرف شابلن كيف يستخلص أمرين أساسيين من طفولته: أولهما خوف اليهودي المزمن من الشرطي بوصفه التجسّد المنطقي لعدوانية العالم؛ وثانيهما تلك الحكمة اليهودية القديمة التي تفيد بأن دهاء داوود يمكنه أن يتغلب على قوة غولياث".
من الواضح أن هذا التحليل لشخصية الصعلوك الأشهر في تاريخ السينما، يبدو صحيحاٍ لكن من الواضح أيضاً وفي المقابل أن الإمعان في سبر الأمور على هذه الشاكلة قد يوصل الفيلسوفة إلى اللا مكان لمجرد أن يحاول أي باحث آخر في تاريخ شابلن و"أفكاره" السينمائية أن يسير في تحليله على خط معاكس ليقول مثلاً أن المنبوذ وفكرته ليسا حكراً على اليهود. فالمنبوذون الصعاليك يمكن أن يوجدوا لدى كل المجموعات البروليتارية وما دون البروليتارية، وأن شابلن استخدم بعض المعايير التي قد تبدو يهودية بالنسبة إلى الحس الشعبي لا سيما في بعض مناطق وسط أوروبا معمّماً إياها لتنطبق على البائسين في كل زمان ومكان. بيد أن هذا الاعتراض لن يكون من شأنه أن ينسف فكرة آرندت من أساسها. في أقصى الحالات قد يثير تساؤلات حقيقية حول مدى صحتها، وبالتالي حول مدى إدراك شابلن حقاً لما كان يفعله. فهل تراه كان من التعمق سوسيولوجياً إلى درجة تكون معها اختياراته الفنية التي تتعامل آرندت معها كخلفية فكرية في منتهى العمق، انعكاساً لمخطط فكري مبني بحذق ومرارة؟ أم أن تطابق المنبوذ والبروليتاري لديه على الشاكلة التي حرّكت قلم الفيلسوفة المعروفة، إنما جاء "عفو خاطر" ينطلق من حسّ شعبي ونظرة مسبقة إلى اليهودي في المجتمعات البائسة، لا من تفكير سوسيولوجي مسبق؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في خضمّ سوسيولوجيا السينما
الحقيقة أن الفرضية، المغرية على أية حال، التي تقترحها هانا آرندت لم تنل ما تستحقه من تحليل وتمعّن، وربما لأن الكشف بعد فترة يسيرة عن استحالة أن يكون شابلن يهودياً، طوى بالنسيان الفكرة من أساسها، وعلى الأقل في ارتباطها بالأداء الشابلني، مبقياً على صحة التحليل في حد ذاته باعتباره نظرة تنتمي إلى سوسيولوجيا السينما تلقيها مفكرة كبيرة كانت أبعد ما يكون عن الفن السابع، وجاءت هنا إليه لتجرب حظها في خوض تحليلاته بذكاء وعمق جعلا كثراً من قرائها يتمنّون لو كان شابلن يهودياً بالفعل.
مهما يكن فإن هانا آرندت (1906-1975) ستشتهر بخاصة بكتابين أساسيين لها هما "أسس التوتاليتارية" و"إيخمان في القدس"، وهذا الأخير كان هو الذي جعلها عرضة لهجومات عنيفة شنها عليها صهاينة لم يستسيغوا حديثها عن عادية الشر ولا طبعاً عن تعاون قام في برلين بين الصهاينة والنازيين أسفر عن ترحيل كثر من اليهود الأغنياء مقابل تخليهم عن ممتلكاتهم أيام الحكم النازي، في وقت كان هذا الأخير يبيد اليهود الفقراء حاشراً إياهم في معسكرات الاعتقال التي ستتحول إلى معسكرات قتل وإبادة جماعية.