لا شك في أن فوز الشاعر المصري عماد أبو صالح بجائزة سركون بولص في دورتها الثالثة، يعد انتصاراً لقصيدة النثر عموماً، والمصرية تحديداً، وقد وضعت أمانة الجائزة يدها على أهم ما يميز شعرية أبو صالح حين أكدت أن "قصيدته أخذت إيقاعها الخاص لغةً وموسيقى وبساطةً كتعبير عن ذائقة جديدة، ذائقة معبرة عن دقائق الحياة اليومية، مبينة المصائر البشرية وهي تهتز معلقة بصوت خافت أقرب إلى الصمت أو التلاشي". وهي شعرية تذكر – كما تقول لجنة التحكيم – بالشاعر الكبير محمد الماغوط الذي اقتحم الساحة الشعرية بلغة تجمع بين البساطة والعمق في ستينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من انتماء عماد أبو صالح– زمنياً– إلى ما يعرف بجيل الثمانينيات فقد نشر ديوانه الأول "أمور منتهية أصلاً" عام 1995، ثم توالت دواوينه التي بلغت الثمانية: "كلب ينبح ليقتل الوقت" 1996، و"عجوز تؤلمه الضحكات" 1997، و"أنا خائف" 1998، و"قبور واسعة" 1999، و"مهندس العالم" 2002، و"جمال كافر" 2005، وأخيراً "كان نائماً حين قامت الثورة" 2015. واللافت أن الشاعر نشر هذه الدواوين في طبعات محدودة على نفقته الخاصة ووزعها على أصدقائه من الشعراء والنقاد.
عزلة اختيارية
هذه العزلة الاختيارية مكنته من الحفاظ على خصوصيته وتفرد صوته الشعري وطرح "تيمات" موضوعية جديدة، فقد ارتحل أبو صالح– المولود عام 1968- من إحدى القرى القريبة من مدينة المنصورة إلى القاهرة، لكن قريته برجالها ونسائها وأطفالها ظلت داخله. يقول واصفاً تلك النساء: "لم يكن ينخلن/ كن يرقصن على إيقاع المناخل/ ثم يخرجن من حجرات المعيشة/ ملائكة بيضاء/ بغبار أبيض/ إلى أن يلطمهن الأزواج فجأة/ فيصرن مرة ثانية/ أشباحاً في ملابس سوداء". فنحن– هنا– أمام مشهد سينمائي، أو صورة كلية تجمع بين الصوت واللون والحركة، ورغم حالة الفرح التي تسيطر على هؤلاء النساء و"هن ينخلن"، فإن الأزواج يعيدونهن إلى الواقع المرير مرة أخرى فيتحولن من ملائكة بيضاء إلى أشباح.
وتظل المفارقة قائمة بين هذه اللحظات المبهجة المسروقة والواقع المؤلم الممتد. إن أبو صالح ابتعد عن القرية وعاش على هامش المدينة ليتمكن من رؤيتهما حقيقة، طارحاً موضوعات غير معتادة مثل مديح العدم والخطأ والفراغ والظلام، مدللاً على أن الفن يمكن أن ينبثق من مناطق الشر حين يقول: "أريد أن أمزق ستارة الجيران/ أن أرش المازوت على رجل معه امرأته وطفله القذر ممسك بيديهما/ أريد أن أفرغ إطارات السيارات/ أو على الأقل/ أسير في شارعين في اللحظة نفسها".
تعزية الذات
هذه النزعات الشريرة تعبير عن أعلى درجات الاغتراب والشعور بالفقد، فالشاعر يفتقد كل هذه الأشياء التي يثور عليها. إن الكتابة هنا فاضحة تكشف عقد الذات والمسكوت عنه. لم يعد الشاعر متنبئاً أو طليعياً ولم تعد الكتابة بديلاً عن الانتحار، بل أصبحنا أمام إنسان ضعيف هش تفضحه الكتابة حين تكشف ما بداخله، يقول: "أنظر إلى البنت الجميلة وأقول: من يأمن الزيت عند الهم/ ليد الولد التي تعصر يد البنت وأقول: سيفترقان من أجل حجرة الصالون/ للشبابيك المغلقة وأقول: يتشاجر الأزواج بالداخل/ والعربات التي تنثر الطين على ملابسي/ ستصطدم حتماً".
والحق أن هذه السطور أقرب إلى تعزية الذات أكثر من كونها أمنيات شريرة وأن ما يمتلكه الآخرون هو – بحكم الصيرورة – إلى زوال، ولا يظهر عطف الشاعر إلا على أمثاله من الفقراء حين نقرأ: "تصنع غرفة من الكرتون/ وتجلس مبتسمة/ هي إن بكت/ ستبتل الحوائط وتنام ثانية في العراء". فهذه المرأة التى لا تملك إلا بيتاً من الكرتون محرومة حتى من البكاء؛ لأنها لو بكت سينهار هذا البيت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفى سطور أخرى يرصد الشاعر التفاوت الاجتماعي بين خادمة وسيدتها وهي تذكرنا بقصة "نظرة" ليوسف إدريس؛ يقول أبو صالح: "تقع على السلم/ تنفرط حبات الخوخ من ثوبها/ وتحدث ضجة توقظ النائمين/ الآن تدرك الخادمة القروية/ لماذا أهدتها صاحبة المنزل/ حذاءً بكعب عال". ورغم هذا الانحياز للفقراء، فإن الشاعر لا ينخدع بمظاهر الفقر التى يدعيها البعض، ويرى أنه ضيع عمره من أجلهم حتى أصبحوا أشبه بقاتليه "هؤلاء الناس يريدون قتلي: العجوز الذي يبيع المناديل (إنها خدعة لتوزيع المخدرات بالتأكيد) الشحاذون الموثقون بالتحاليل وصور الأشعات (أخرجوا الأموال من تحت البلاطات يا كذابين) والمومس أيضاً/ ليست الحكاية احتياجاً للمال بالطبع". هنا أكثر من ملمح شعري، منها انقسام صوت الشاعر على نفسه، وقد عبر عن ذلك بوضع الصوت الثاني بين قوسين كأنه يرد على الصوت الأول، ومنها الطابع الشفاهي في استخدامه بعض الكلمات الدارجة.
إن الشاعر يريد أن يتخلص من أعبائه التي كان مخدوعاً فيها؛ يقول: "أريد أن أبقى خفيفاً خاوياً – أو على الأصح – جاهلاً أكنس روحي". ولا شك أن الحزن هو العبء الأكبر الذي يسعى للخلاص منه: "لا تلومونا/ حين نفرط في حزننا/ إلى هذه الدرجة/ نحن في الحقيقة/ نريد أن نفرغه كله/ ربما نعثر قبل الموت/ على ضحكة مختبئة في أعماقنا". ولعل هذا الحزن والإحباط والحياة القاسية مما يفسر ذلك العنوان اللافت لديوانه الأخير، الذي يقول فيه: "كان نائماً حين قامت الثورة/ لم يغادر سريره/ رغم أنه سمع الهتافات الهادرة/ من شباك غرفته/ نام بعمق وكان وحيداً في البيت/ في الحي كله/ لا ضجيج بائعين/ لا صراخ أطفال/ ولا نباح كلاب/ وحيداً وحراً/ بينما الثوار هناك/ يشيعون جنازة الحرية".
هذا التشاؤم من المصير الإنسانى عموماً يذكرنا بقول كافكا حين علم بتمرد عمال أحد المصانع "إنهم حالمون يتوهمون أن بإمكانهم تغيير شىء". ورغم ذلك يظل شعر أبو صالح يخايل ذلك الأمل البعيد حين يقول "مكان نقط الماء الساقطة من الثوب النسائي المعلق في الشرفة العلوية/ نبتت شجيرة". هذه الشجيرة التى سوف تنمو بلا شك لتصنع عالماً أكثر عدلاً.