تلقيت دعوة كريمة منذ أيام من سفير العراق في مصر للعشاء بمنزله العامر على شرف وزير خارجية العراق فؤاد حسين بحضور أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية وعمرو موسى الأمين العام الأسبق ومعظم السفراء العرب في القاهرة ولفيف من الدبلوماسيين المصريين والإعلاميين، وقد شرد ذهني منذ اللحظة الأولى صوب العراق الشقيق بما يمثله من ثقل في العالم العربي وأهمية كبيرة في الميزان الاستراتيجي للقوى الاقتصادية والعسكرية فضلًا عن المكانة السياسية.
فقد وهب الله العراق ما لم يهبه لغيره، فيه النفط والمياه والأرض الخصبة والكوادر المدربة في التخصصات المختلفة، ولكن الله أيضاً قد سلط على ذلك الشعب العريق نماذج سيئة في حيازة السلطة وقيادة الدولة كما أحاطته الأطماع من الجيران تارة ومن القوى العظمى تارة أخرى ومن العبث بوحدته الداخلية تارة ثالثة، فانتقل العراق في العقود الأخيرة من حرب إلى حصار إلى حرب أخرى إلى احتلال عبث بمقدرات ذلك البلد الكبير فتم تسريح الجيش العراقي الذي كان حارساً للبوابة الشرقية للأمة العربية كما جرى تفكيك الدولة سياسياً وتمزيق وحدتها وطنياً، ولولا أن العراق بلد الوفرة ما استطاع أن يصمد لكل ما جرى له فلقد استعاد الاحتلال نعرة التقسيم الطائفي بين سني وشيعي ونعرة التقسيم القومي بين عرب وكرد وزاد على ذلك قيامه بخلق الفتن وزرع الاضطرابات وتغذية العنف وتمكين التنظيمات الإرهابية من العبث بأمن واستقرار بلد الرافدين معقل الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين التي احتضنت ازدهار الدولة الإسلامية على يد العباسيين وكانت منارة للعلم والمعرفة لعدة قرون، فما من فقيه إسلامي أو مفكر عربي أو عالم استثنائي إلا ومر بالعراق أو عاش فيها، فهي عراق المدرسة المستنصرية، وهي عراق حضارة بابل وآشور وهي نقطة التماس بين العالم العربي والفرس والأتراك معاً فضلاً عن بسالة مقاتليها وبأس جندها وارتباطها الدائم بأن تكون دولة شديدة المراس ذات حضور في الجغرافيا والتاريخ معاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذلك فإن عروبة العراق أمر عزيز على قلوبنا، ومهم لوجودنا، وضمان لاستمرار ركيزة عظيمة بيننا، ولقد كان لغياب الدور العروبي للعراق في العقود الأخيرة أثره السلبي في مكانة العرب وعزتهم، فافتقدت المنظومة العربية الدور العراقي الذي كان نشيطاً ومؤثراً، والذي يسعى لاستعادته الآن خروجاً من النفق المظلم الذي دخلت فيه تلك الدولة التي تمثل ثقلاً إقليمياً لا ينكره أحد، ولقد سمعت من الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية الدبلوماسي المخضرم عمرو موسى عن جهود الجامعة أثناء وضع الدستور العراقي الجديد من أجل تأكيد عروبة العراق والتوقف عن محاولات تقسيمه عرقياً وطائفياً والامتثال أمام الدور العربي للعراق على مر السنين، وقد قال إن الذي كان يحاوره في هذا الشأن هو سياسي عراقي كردي أكد أن العراق بلد مؤسس في جامعة الدول العربية حسماً للخلاف النظري حول عروبة العراق وتجذر النزعة القومية في داخله، ويهمنا هنا أن نطرح عدداً من الاعتبارات المتصلة بهذا السياق:
أولاً: إن الشعب العراقي شريك أساس في كل معارك أمته العربية عبر التاريخ كما أنه شعب ملتزم بثوابت القضية الفلسطينية دافع عنها ولم يفرط فيها، وقد شهد العراق وشارك في انتصارات الأمة العربية وانتكاساتها وتعرض معها لكافة المطبات السياسية التي عبرت في أجوائها، ولقد حاول الاحتلال الأميركي للعراق العبث بهويته وتغيير شخصيته، ولكنه لم يفلح إلا في نشر مزيد من الضحايا والأشلاء والدماء مع حرص أميركي على عزل العراق عن أمته العربية حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية والزج به في تقارب شديد مع إيران وزرع الفتن وتصدير الاضطرابات الطائفية والسياسية، وقد أسهم الأتراك من جانبهم أيضاً في تقديم لوجستيات لتنظيم داعش الإرهابي في شمال العراق حتى تمكن العراقيون ببسالة جيشهم من طرد فلول داعش في الموصل وغيرها من مناطق الشمال.
ثانياً: إن تحسن العلاقات السعودية العراقية ينعكس تلقائياً على تقارب خليجي مع بغداد ويزيل من الذاكرة مواقف الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت وبعض دول الخليج، لذلك نشطت الدبلوماسية العراقية مؤخرا في المنطقة وفتحت جسورا جديدة مع كل من القاهرة وعمّان، ولقد جاءت زيارة وزير خارجية العراق في إطار ذلك السياق الذي يستعيد به بلاده دوره العربي ومكانته الإقليمية، ولا شك أن الدور العراقي يتمتع حاليا بقبول عربي عام وترحيب قومي خصوصا بعد المعاناة التي عرفها الشعب العراقي نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين حيث كان العراق محط الأنظار بكل ما فيه من معارك ومشكلات وأزمات، وحان الوقت للعراق أن يستريح استراحة محارب ليهتم باقتصاده وقواته المسلحة وشعبه الذي عانى كثيرا.
ثالثاً: إن العراقيين، شيعة وسنة، ينتمون إلى أصول عربية وقبائل وعشائر دخلت للعراق من جنوبه واستوطنت البصرة وما حولها، وكانت النواة لعروبة العراق بعد فتحه الإسلامي، وإذا كان الشيعة العراقيون متركزين في جنوب الدولة فإن ذلك يعني أن عروبة الشيعة ليست محل جدال وأن التوحد المذهبي مع إيران الفارسية لا يعني أن شيعة العراق يفضلون تشيعهم على عروبتهم، فالعروبة تاريخ وحضارة وانتماء لا ينتهي، ونحن نتذكر الآن أن الحرب الإيرانية العراقية قد حشد فيها صدام حسين شعبه دون تفرقة بين سنة وشيعة. فلقد كانت المواجهة عربية فارسية رغم أنها كانت حربا غير مبررة دفع فيها العراقيون ثمنا باهظا لأنها كانت أقرب إلى المغامرة منها إلى الحرب المحسوبة، لذلك فإننا نظن أن العراق الجديد يعيد ترتيب أوراقه محلياً وإقليمياً ودولياً على ضوء المستجدات التي طرأت على المنطقة بما في ذلك الخطوات الأخيرة لدولتين في الخليج العربي أقامتا علاقات مع إسرائيل حتى أن البعض يرشح العراق لأن يكون إحدى الدول القادمة التي تفتح جسراً جديداً مع الدولة العبرية وإن كنا نشك في ذلك على ضوء الأوضاع الجديدة داخل العراق.
رابعاً: إن ثورات الربيع العربي ابتعدت عن العراق لأن فيه ما يكفيه ولم يعد بحاجة إلى ثورات مستوردة لكي يسترد مكانته، ورغم ذلك كله فإنه من الصعب أن يقال إن العراق معتمد على غيره لأن موارده متاحة وكوادره متوفرة كما أن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد أصبحت تشمل العراق الفيدرالي دون تدخل دائم أو مواجهات مباشرة، وبالمناسبة فإن أكراد العراق، الذين يتحدث معظمهم العربية، لا تقل حفاوتهم بالعروبة وقبولهم التاريخي لجوارها الممتد عن أن تكون ركيزة راسخة للعلاقات العربية الكردية واضعين في الاعتبار الأطماع التركية في بعض المناطق الكردية شمال العراق حيث ثروة النفط تمثل هاجساً جاذباً لأطماع الأتراك في تلك المنطقة مثلما هي أطماعهم في مناطق أخرى في سوريا.
خامساً: إن الدور العراقي النشط على الساحة الدولية يسمح له بأن يستعيد عافيته في أقرب وقت وأن يخرج من الدائرة الأميركية ليتعامل معها في ندية، فالكل يدرك تضحيات شعبه وقدرته على مواجهة التحديات والخروج من الأزمات عربياً قوياً منيعاً.
مرحباً بالعراق بلد الحضارات والثقافات والديانات إضافة قومية لأمته العربية وشعوبها التي تؤمن بأن العراق ركن هام في الساحة العربية والفضاء الدولي على مر العصور.