في لبنان تحوّل سعر صرف الدولار إلى معيار لقياس حجم الخوف والطمأنينة لدى المواطنين، وتحوّلت تطبيقات السوق السوداء إلى ضابط لسلوك الاقتصاديين. وفي الأيام القليلة الماضية، طُرحت علامات استفهام كثيرة حول الهبوط السريع لسعر صرفه بها من دون مبرر.
حاول البعض الربط بين هذا الأمر وعودة الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي، وذهب إلى أن الدولار سيواصل الانهيار بفعل عامل الثقة والغطاء الدولي الذي يحظى به. إلا أن ترويج رؤية كهذه وبأن "الليرة بخير"، لم يرقَ إلى مستوى الإجابة الشافية، لذلك بدا واضحاً أننا أمام نزول وهمي لا تدعمه أي مؤشرات اقتصادية إيجابية، أو دخول "فريش دولار" إلى النظام المالي، وعودة الانتظام إلى العمليات المصرفية. وازدحمت ساحة الاتهامات بين من ادعى قيام المصرف المركزي وبعض المصارف بالتلاعب من أجل أهداف سياسية، ومن اتهم صرافين بضخ دولارات في السوق بكميات كبيرة، وصولاً إلى شبهة الخفض المدروس من أجل تخويف المواطنين ودفعهم لبيع مدخراتهم بالعملة الصعبة.
تزداد هذه الريبة عندما يقصد المواطن الصراف، فبعض الصرافين النظاميين يلعب الدور المحايد فهو لا يشتري ولا يبيع، فيما يلعب الآخر دور المرابي يشتري ولكن "لا يبيع لأنه لا يوجد لديه كفايته". فيما ينشط تجار الأزمات، فتجدهم يجلسون في الزوايا ويهمسون للمارة بأنهم "يشترون بأفضل سعر ممكن".
الدولار أسعار مختلفة؟
يعطي انخفاض حجم الودائع في البنوك صورة عن تراجع الثقة بالنظام المصرفي في لبنان، والقلق الذي ينتظر المستقبل الاقتصادي للبلاد. ففي سبتمبر (أيلول) 2019 بلغ حجم الودائع بالبنوك اللبنانية 175 مليار دولار، منها 127.5 مليار بالدولار. وفي نهاية سبتمبر 2020 تراجعت الودائع إلى 147 مليار دولار؛ أي أقل بـ28 مليار دولار، حسب الباحث الاقتصادي محمد شمس الدين، الذي يؤكد لـ"اندبندنت عربية" أنه لا يوجد نصّ يمنع التحويل إلى الخارج، وكل ما يخالف ذلك هو مجرد كلام لأنك حر بالتصرف في مالك وأن تخزنه في المنزل أو تحوله وفق مندرجات القانون الذي يسمح بذلك.
وشهد العام المنصرم تدهوراً في سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، يرجع إلى وجود عدة أسعار صرف في البلد الواحد. ففي وقت يحافظ مصرف لبنان في نشراته على سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات مقابل الدولار، الذي يرعى الدولار الطالبي وجزء من دعم الدواء والمعدات الطبية والمحروقات، فهو يُقر سعر دولار المنصة اللولار (Lollar)، التي ترعى العمليات المصرفية والحوالات بـ3900 ليرة في التداول الرسمي حيث تحوّلت الودائع الدولارية إلى حسابات إسمية، وصولاً إلى سعر السوق السوداء الذي بلغ في الأحيان سقف 10 آلاف ليرة وتراجع مؤخراً إلى متوسط 6500 ليرة لبنانية مقابل الدولار.
هذا التوصيف الذي يندرج تحت إطار العموميات يشي بأن هناك صعوبة في الحصول على الدولار ضمن السياق النظامي، وهناك دفع للمواطن من أجل الولوج إلى السوق الموازية غير الشرعية التي لعبت دوراً ثلاثياً الأضلاع، فهي آمنة للقطاعات الاقتصادية وجزء من احتياجاته من الدولار، وفي المقابل أشعرت المواطن بشيء من الأمان بأنه قادر على تحصين مدخراته باللبناني، التي يحصل عليها من البنوك إلى الدولار، ولكنها في الوقت نفسه لعبت دوراً سلبياً في تهريب جزء منها إلى الخارج ودفع الناس إلى بيع مدخراتها تحت وطأة الابتزاز والخوف من هبوط سريع في سعر صرف الدولار الأميركي.
الدولار بين العرض والطلب
يقوم سعر صرف الدولار كسلعة على قواعد السوق والعرض والطلب، هذا وفق الإطار العام. أما في النموذج اللبناني فإن الأمر مختلف. تخبرنا ليال منصور عن دولرة الاقتصاد اللبناني والأنشطة المتصلة به، وتقول، "اللبناني يتعامل مع الدولار وكأنها عملته الوطنية على خلاف البلدان الأخرى".
هذا السلوك لا يمكن أن يُغطي حقيقة الحاجة للدولار، فهو ضروري من أجل استيراد المواد الأساسية، وكذلك من أجل التخزين والادخار، وبات جزءاً من الثقافة الشعبية "خبي دولارك الأخضر لنهارك الأسود"، بالإضافة إلى الحاجة للسفر ودفع تكاليف تعليم أبنائنا بالخارج. وتجد منصور عاملاً نفسياً مؤثراً لأن هناك رابطاً بين الخوف من المستقبل وعدم الثقة بالعملة الوطنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشير منصور أن سعر الدولار ليس سعراً نفسياً فقط، ولكن هناك عوامل اقتصادية تتحكم به لذلك فإن هبوطه من الناحية العلمية يبقى محدوداً. وتوضح أن عودة الاستقرار السياسي وتشكيل حكومة توحي بالثقة للمواطن عامل من عوامل عدة، إلا أنه لا يمكنه اختصار سائر المؤشرات الاقتصادية، ولذلك لا بد من معالجة الأسباب الحقيقية من الفساد وعدم الإصلاح، منها التهريب، والهدر، وغيرهما. لذلك يمكن تقسيم الدولار عند مستوى 8 آلاف إلى ثلاثة أقسام، 5 آلاف ليرة هو مستوى قيمته وفق المؤشرات الاقتصادية المتعلقة بطبع الأموال والفوائد والسياسة الضريبية والفساد، و1500 قيمة ناتجة عن الخوف والثقة، و1500 يرتبط بالتحويلات وغيرها.
اللبناني الضحية
أدى ارتفاع صرف الدولار إلى تآكل مدخرات اللبنانيين، وتعويضات نهاية الخدمة لدى الدولة، وفي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. كما أسهم في ارتفاع الأسعار بنسبة بلغت 122 في المئة، ويعود السبب في ذلك إلى اعتماد لبنان بنسبة 90 في المئة لتوفير حاجاته الاستهلاكية. ولأن أكثر من 95 في المئة من العاملين والأجراء يتقاضون أجورهم بالعملة الوطنية، بدأت القدرة الشرائية لأكثرية المواطنين في التآكل، في ظل عجزهم عن توفير معظم احتياجاتهم.
سعر صرف سياسي
سنة مضت على تسليم الجهات الرسمية في لبنان بعجزها عن الحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة. يؤكد لنا أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية أيمن عمر، أن "ما نشهده اليوم من اختلال في سعر صرف الليرة اللبنانية هو نتاج بنيوي لسياسة تثبيت سعر الصرف عند 1507.5 ليرة منذ أواخر 1998 دون أن يقابله سياسات اقتصادية ومالية حقيقية تشكل الدرع الأول لحماية الليرة، فأصبح السعر الرسمي وهمياً لا يعكس قيمة الليرة الحقيقية بالسوق المالية، وعندما جاءت لحظة الحقيقة تكشّف زيف السعر الرسمي ووهنه".
يوضح عمر، أن سعر الصرف القائم على بنيان اقتصادي مهتز ومالية عامة مهترئة، يصبح من السهل ربطه بالأحداث السياسية وتطوراتها، مؤكداً أن سعر الصرف سياسي بامتياز كأحد أهم الأدوات في تحقيق أجندات خارجية.
وفي نظرة تاريخية، فإن بداية ارتفاع سعر صرف الدولار بالسوق السوداء حدثت في أغسطس (آب) 2019، عندما ارتفع من السعر الرسمي إلى 1530 ليرة للدولار، وكان ذلك مع اشتداد العقوبات على فريق سياسي معين في البلاد والبدء بالاصطفاف الحاد فيه، ونلاحظ أنه كلما اشتدت الأزمة السياسية كلما شهدنا مزيداً من التدهور في سعر الصرف.
ينتقد عمر ابتداع مصرف لبنان عدة أسعار لصرف الدولار بطريقة لم تشهدها أي دولة في العالم. ويتنبأ أن ذلك يمهّد لدفن نظام القطع القائم على تثبيت سعر الصرف والتوجه نحو تعويمه لاحقاً، بخاصة سعر المنصة، الذي يبلغ 3900 ليرة للدولار، وهو سعر تقريباً وسطي بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء.
ويستغرب تأخر المصرف المركزي عن التدخل في بدء الأزمة، لأنه في أبجديات علم الاقتصاد وعند حدوث اختلالات في سعر الصرف، يتدخل المصرف المركزي بائعاً أو شارياً للعملات في سوق القطع لإعادة التوازن النقدي، وهذا الدور الطبيعي لمصرف لبنان كما نصّ عليه قانون النقد والتسليف. ولكن هذا ما لم يحدث، رغم امتلاك مصرف لبنان لاحتياطي من العملات الأجنبية من دون الذهب، نحو 38 مليار دولار أميركي، وهي كافية جداً لتحقيق الاستقرار النقدي آنذاك. لنتفاجأ بعدها بأرقام متضاربة حول احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية وعن الأموال القابلة للاستعمال منها، وعن قدرتها على تغطية تمويل استيراد المواد الأساسية الثلاثة فقط، وبذلك نكون أمام غياب للشفافية والمصداقية في الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان.
الحل يبدأ الآن
تختصر منصور ما يجري الآن في لبنان بـ"لعب بالأرقام"، وتعتقد أن "البنك المركزي يريد إثبات أن الأرقام في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 تتجه نحو التحسن مقارنة بالشهور السابقة". وتحذر منصور المواطنين من التلاعب بهم، متوقعةً عودة الدولار إلى الارتفاع مع بداية الشهر المقبل.
تصف منصور، السياسات المتبعة في لبنان بالـ"المسكنات" قصيرة الأمد، لأن وضع سقوف لسحب الدولار لا يؤدي إلى التدهور في سعر الصرف أو يخفف الحاجة إليه، وتشبهه بالشخص الجائع الذي يتوقف قسراً عن الطعام بسبب إقفال باب المطبخ، لأن المنع سيستدعي ردود فعل عنيفة أو ارتكاب جرائم للحصول على الحاجات الأساسية، أو انتهاز الفرصة للحصول على أكبر قدر ممكن. وتعتقد أن الحل يبدأ بوقف الاستنزاف والانهيار مباشرة، من خلال "صندوق تثبيت القطع".
وكانت النائبة بولا يعقوبيان تقدمت في يونيو (حزيران) الماضي باقتراح قانون لإقراره في مجلس النواب، ويذهب هذا الطرح إلى "تثبيت سعر الصرف، وجلب الثقة لأنها تسهم في إدخال كمية كبيرة من الدولارات إلى النظام المصرفي وتفرض الإصلاحات في الدول المفلسة والفاسدة". ويهدف مشروعها إلى إعادة إصلاح النظام من الصفر ودون ارتكاب أي خلل.
تشير منصور إلى أنه "كلما انهار الاقتصاد يصبح طموحك هو السيطرة على الوضع الحالي وليس العودة إلى المرحلة السابقة"، لذلك لا بد وقف النزيف وبدء المحاسبة لأن "غداً سيكون أسوأ من الآن وهكذا دواليك". وطالبت ببدء وضع طريق الإصلاح، ووقف طباعة الليرة.