إن نجاح لجان التنسيقات في المحافظات العشر المنتفضة داخل العراق، في تحشيد التظاهرات المليونية، التي اشتركت فيها اتحادات الطلبة وشيوخ عشائر وشخصيات، وزخم هائل من عامة المواطنين، في تجديد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) يوم 25 من الشهر الحالي، يوضح ويؤكد أن الانتفاضة صامدة ومستمرة.
ونقلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي صوراً وشرائط مصورة تثبت سلمية التظاهرات، وأن المحتجين لا يرفعون غير الأعلام العراقية، ومع ذلك فإن القوات الأمنية استخدمت القوة لتفريقهم، وشنت الهجوم ضدهم، وكان النصيب الأكبر من الإصابات في العاصمة بغداد، مناطق العلاوي والسنك وشارع الرشيد وغيرها، وساحات التحرير والخلاني والصالحية، وجسور الجمهورية والسنك والأحرار والشهداء، وسقط في ساحة الخلاني الشاب محمد عبد الرضوان ضحية الرمي بالرصاص الحي، وتبعه في اليوم التالي أكثر من ضحية، منهم المسعف الطبي رضا، وكذلك سقط شاب آخر جراء ضربه بقنبلة غاز الأعصاب المحرمة دولياً، كما شرح الطبيب حالته في تصوير تناقلته وسائل الإعلام أيضاً، بالإضافة إلى إسعاف الجرحى من قِبل المفارز الطبية الخاصة بالمعتصمين في ساحة التحرير، كما ارتفع عدد الإصابات في كربلاء وبابل والنجف والقادسية والمثنى وبقية المحافظات المنتفضة.
وروى أحد رواد معتصمي ساحة التحرير عمر كاطع الكاظم، من خلال تسجيل مصور عبر هاتفه الجوال، ما جرى لهم صباحاً في منطقة العلاوي القريبة من المنطقة الخضراء، إذ كانوا واقفين تجاه قوات مكافحة الشغب، وكان كل شيء هادئ من دون أي احتكاك، وفجأة هجموا وانهالوا عليهم ضرباً، ولم يحترموا شيباً ولا شباباً، وانسحبوا فور تفتيت صفوف المتظاهرين.
والغريب أن زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر حذر من دخول مندسين لتخريب التظاهرات، داعياً الحكومة لردعهم، محذراً إياهم من التواطؤ مع أصحاب الارتباطات الخارجة، وقد وثق شهود عيان بالصوت والصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، كيف أن التابعين إلى مقتدى اشتبكوا بالسلاح الأبيض مع المتظاهرين السلميين في ساحة الساعة في مدينة الديوانية، مركز محافظة القادسية وسط العراق.
وفي الليل، اشتدت المواجهات أكثر بين المنتفضين والقوات الأمنية، وفي بغداد تمكنوا من السيطرة على الساتر الأمني في جسر السنك، وكرروا زحفهم نحو الساتر الثاني في جسر الجمهورية وسقط شاب ضحية، وعلى حين غرة اندلعت النيران في جانب من خيام المعتصمين في ساحة التحرير، وهذا يعني أن المندسين أرادوا إعاقة تقدم الشباب صوب المنطقة الخضراء، وإسقاط الحكومة والبرلمان الخاضعين للهيمنة الإيرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إحدى النساء المتظاهرات في ساحة التحرير خاطبت مصطفى الكاظمي بلغة بسيطة واضحة وصريحة، "إما أن تكون مع الشعب أو مع الأحزاب الموالية لإيران، نحن لا نريد إيران".
بالنسبة إلى رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، وصف التظاهرات بأنها "استذكار سلمي لأحداث أكتوبر". وهذه قراءة مغلوطة لا تتطابق مع واقع الحال، إذ إنها انتفاضة مستمرة وصامدة، وليست استحضاراً لذكرى سابقة، كما أنها انتفاضة شعبية عارمة تعد امتداداً لانتفاضات ماضية تحت مسميات الكهرباء والبطالة ومحاربة الفساد وغيرها، فالوضع الحالي نتاج تراكمات كثيرة بسبب الفساد المالي والإداري المستشري في الدولة ومؤسساتها، ثم استفحال الفصائل الولائية التي تفرض نفسها عنوة على الدولة والمجتمع.
على أي حال، بعدما فشلت الأحزاب الدينية الحاكمة والفصائل المسلحة الموالية لإيران في العام الماضي، باستخدام القوة العنيفة المفرطة التي راح ضحيتها مئات الضحايا وآلاف الجرحى، بغية إخماد جذوة الانتفاضة في مهدها، اتجهت بفرض سطوتها على ساحات الاعتصامات في المحافظات، وذلك بممارسات الاغتيال والخطف وإحراق الخيام ودس البلطجية، وساعدها في ذلك بضعة شيوخ من عشائر الجنوب، الذين التحقوا بالمشروع الإيراني، بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى بغداد، وخروجه عن الأعراف الدبلوماسية، إذ التقى بالشيوخ داخل القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء في 17 يناير (كانون الثاني) 2019.
وبعد صمود انتفاضة أكتوبر، وثبات شبابها الذين حولوا المطالب في مكافحة الفساد والبطالة ومحاسبة الناهبين إلى أهداف في إسقاط النظام ومحاسبة قتلة المتظاهرين السلميين، فإن مخطط الكتل الموالية لإيران، باختراق الانتفاضة وحرفها عن أهدافها وحصرها بمطالب التعديلات والإصلاحات باءت بالفشل أيضاً. لذلك، قبل التحشيد في تجديد انتفاضة أكتوبر، تجد أن زعماء الفصائل الولائية، وعلى رأسهم قيس الخزعلي وهادي العامري وعبد العزيز المحمداوي وآخرون، لم يكن لهم ظهور إعلامي، وكذلك أغلب رؤوساء الأحزاب السياسية، وما صرح به نوري المالكي قبل 48 ساعة من انطلاقة التظاهرات المليونية، حين قال "نحرص على تحقيق مطالب المتظاهرين السلميين المشروعة، الذين هم إخواننا وأبناؤنا"، ماهو إلا مماحكة ماكرة لم تنطل على وعي الشباب الثائر، فالمالكي فاعل رئيس في ما جرى ويجري من تدهور وتدمير في العراق لصالح إيران.
كما أن خطاب المالكي، على نمط الصدر وغيره، من الذين يحذرون بشدة من خطورة اختراق بعض الجهات الأجنبية صفوف المتظاهرين، وهي تهمة مبطنة يتوارى خلفها أتباع إيران من أجل اعتقال الشباب الثائر ضدهم وضد المشروع الإيراني. وأكد كثير من المتظاهرين أن جماعة الصدر والمالكي، هم الذين يقومون بالاعتداء المسلح على القوات الحكومية، ليكون رد الفعل ضرب المتظاهرين من جهة، وتشويه سلمية التظاهرات من جهة أخرى، مع أن وزارة الداخلية أعلنت القبض على من يعتدي على الأمن خلال التظاهرات، ولكن من غير تفاصيل. وحتى عندما أعلنت وزارة الصحة إصابة 240 شخصاً من بينهم 200 عنصر أمن، يعني هناك استهداف مقصود ضد الشرطة لخلق حالة تصادم مسلح ينال من المتظاهرين السلميين.
أما تصريح الناطق الإعلامي للكاظمي، طلال الملا بأن "الاحتجاجات ستنتهي خلال يومين، فهي جموع تستذكر شهداءها"، فإنه قول في غاية السذاجة والسخافة، ولا يتصل بحقيقة الواقع والوقائع، كما أنه يتعمد تسطيح الانتفاضة والإقلال من شأنها، وذلك بحصرها في مجموعات خرجت لتستذكر فقط، ولو كان ذلك كذلك، لكانت ساحات الاعتصامات فارغة ومسيرات التظاهرات متوقفة منذ العام الماضي.
إن يوم تجديد الانتفاضة العراقية يعني أن الإرادة الوطنية لا تزال حية وفاعلة ضد المشروع الإيراني وأذرعه الولائية، ومهما استخدموا من وسائل القمع والقتل والتعذيب والاختطاف، فإنها لن تستطيع كسر إرادة العراقيين، وأن خروج الأطفال في المسيرات وهم يهتفون "حي على خير العمل"، يعني أن المستقبل لهذا الجيل الصاعد لا الدخلاء ولا العملاء، بل الأصلاء من أبناء الوطن، وأن غداً لناظره قريب.