كانت أقصر الحركات الفنية عمراً، ومع هذا مارست تأثيراً تجاوز عمرها الرسمي سنوات طويلة، إضافة إلى أن جذورها سبقت ظهورها الرسمي. الحركة التي نعنيها هنا هي تلك التي حملت اسم "الجسر" (داي بروكي، بالألمانية)، التي ظهرت بشكل رسمي في السابع من مايو (أيار) 1905، أي يوم افتتاح معرض جماعي، ضم أعمالاً للأقطاب الأربعة من الفنانين الذين تكونت منهم المجموعة المؤسسة للحركة.
وعاشت حركة "الجسر" حتى 1911 نشيطة منتجة بشكل جماعي وفردي، ثم انفرط عقدها في عام 1912، لتحل نهائياً في 1913 بعد نزاع طويل. وعلى هذا تكون حياتها الرسمية قد اقتصرت على ثمانية أعوام. ومع هذا لا تزال حتى اليوم تعتبر واحدة من أهم الحركات الفنية التي عرفها القرن العشرون، بل تعد التيار الرئيس بالمدرسة التعبيرية الألمانية في الرسم، وربما في السينما أيضاً.
امتداد لصرخة مونخ المريعة
وإذا كان أقطاب حركة "الجسر" الرئيسيون "إرنست كيرشنر، وإريك هيكيل، وكارل شميدت - روتلوف وفريتز بلييل"، يعلنون أنهم يعتبرون أنفسهم الامتداد الطبيعي لأعمال فان غوخ وغوغان وكليمت، فمن المؤكد والواضح أن تأثرهم الرئيس كان بأعمال الرسام النرويجي إدفارد مونخ، لا سيما لوحتاه "الصرخة" و"رقصة الحياة".
وانطلاقاً من أعمال مونخ هذه تأسست الجماعة، لتقدم عرضها الجماعي الأول ابتداءً من ذلك اليوم. وكان كل أعضائها المؤسسين من طلاب مدرسة درسدن التقنية التي كانت من أشهر معاهد الهندسة المعمارية بألمانيا في ذلك الحين، وكان الفنان شميدت- روتلوف هو الذي اختار لها اسم "الجسر"، انطلاقاً من إيمانهم بـ"دور الفن في العبور إلى المستقبل، المستقبل الذي يتعين على أعمالهم أن تشكل جسراً للوصول إليه".
كان الشعار، إذن، واضحاً، غير أن أصحابه لم يتمكنوا أبداً من تحديد أساليبهم الفنية ولا غايتهم، مما جعل هذه الغاية تبدو على الدوام غامضة، مختبئة خلف مفاهيم مصطلحية، مثل العبور والجسر والمستقبل، من دون أن يبدو في لوحات أي منهم ما يشي حقاً بأي من تلك المفاهيم.
بدا الأمر وكأنه إعلان نوايا لا أكثر، علماً أنه قد جرت العادة على أن تعطى الأسماء للحركات الفنية والإبداعية عموماً من قبل الباحثين والنقاد، وأحياناً من قبل المناوئين، أما هنا فبدأ الافتعال واضحاً منذ اللحظات الأولى، حين سمى أعضاء الحركة حركتهم، وراحوا يشرحون الاسم ويبررونه!
ثورة ضد واقع ما
مهما يكن لا بد من أن نقول للإنصاف، في نهاية الأمر، إن ما كان يحرك أولئك الرسامين نبض ثورة تنتفض ضد الواقع الذي يحيط بهم. كانت غايتهم الأساسية أن يحققوا "حرية العمل والحركة ضد قوى النظام القديم الراسخة". وهم من الناحية العملية وقفوا أول ما وقفوا ضد ضروب الواقعية، لكن خاصة ضد الانطباعية التي كانوا يعتبرونها ترفاً لونياً لا أكثر.
وهم لتعزيز موقفهم هذا تمكنوا من أن يبنوا أسلوباً حضارياً ينتمي في نهاية الأمر إلى التعبيرية، كما تجد جذورها لدى فان غوخ وغوغان وتيار "النبيين" وتيار "الضواري"، وهذا ما سهل انضمام فنانين آخرين إليهم ولو من بعيد، أبرزهم "نولده، وبشتاين، وفان دونغن".
ومثل جماعة "الضواري" عبر "الجسريون" باكراً عن اهتمامهم بالرسم البدائي، كما اكتشفوه في أعمال معروضة في الرواق التابع لمتحف درسدن الإثنولوجي، الذي كانوا يمضون جل وقتهم فيه. ومع هذا فإن استلهامهم أعمال ذلك الفن اختلف في أساليبه كما في غاياته، عن أساليب وغايات الفنانين البدائيين. ومن هنا كان التأثر مجرد شكلي، وربما لوني في بعض الحالات، لا أكثر.
وفي جميع الأحوال نراهم مهتمين برسم الأشكال البشرية والمناظر الطبيعية، كما نرى أغلب مشاهد لوحاتهم تدور خارج البيوت والغرف المغلقة، ناهيك بعنف الخطوط ودفء الألوان لديهم بصورة عامة، تلك الألوان التي غالباً ما كان استخدامها لديهم رمزياً (لدى كيرشنر بشكل خاص). أما الإنجاز الأهم الذي حققوه، في نظر مؤرخيهم الأميركيين الذين كانوا على الدوام أكثر اهتماماً بهم من المؤرخين الفرنسيين والأوروبيين عموماً، فكان إعادة إحيائهم فن الحفر والطباعة على الخشب، وهو فن برعوا فيه بشكل خاص، وأنجزوا بفضله بعض أهم أعمالهم.
نهاية برلينية
في عام 1910 انتقلت جماعة "الجسر" بنشاطها من درسدن إلى برلين، حيث انضم إليها الفنان أوتو مولر، وذلك قبل عامين من ضمور نشاط المجموعة، ثم انفراطها كلياً. ويذكر أن أعضاء المجموعة كانوا في سنوات حياتها الأولى يعرضون معاً، ويعيشون معاً، ويزورون المعارض والمتاحف معاً، حيث يمضون ساعات طويلة بعد كل زيارة وهم يتناقشون بصدد ما شاهدوه. وهذا ما جعل حياتهم تلك تعتبر نموذجاً لحياة فنية جماعية.
ولئن كانت المجموعة قد حلت في 1913، فإن أقطابها ظلوا يواصلون عملهم بالأساليب والاستخدامات اللونية نفسها، حتى وإن كان كل واحد منهم قد انصرف إلى فرديته التي راحت تتمايز شيئاً فشيئاً. وهكذا إذا كان مصير المجموعة قد حسم بالاختفاء، فإن مصائر أقطابها ظلت متواصلة، بحيث صار بعضهم من كبار فناني قرننا العشرين ذاك، بينما اختفى البعض الآخر، وإن ظلت أعماله شاهدة على عبوره المستمر لساحة الحياة.
مهما يكن فإن الأشهر بين أقطاب الحركة المؤسسين، يبقى إرنست كيرشنر الذي سيلمع وحده حتى من قبل اندثار الحركة كحركة هو الذي كان الأكثر تلوينية بين المجموعة، والأكثر اهتماماً برسم الإنسان في مختلف حالاته، بل تحديداً برسم حالات سيكولوجية تضفي نوعاً من الطابع الدرامي على اللوحة التي ستبدو للوهلة الأولى مجرد رسم واقعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا ينطبق بصورة خاصة على لوحته "خمس نساء في الشارع" التي رسمها في عام 1913، وبدت منتمية إلى الطبيعة بأكثر مما هي منتمية إلى أي واقع اجتماعي. فللوهلة الأولى يخيل للناظر إلى اللوحة (يصل عرضها إلى 90 سم وارتفاعها إلى 120 سم، ومعلقة اليوم في متحف لودفيغ بكولونيا الألمانية) أن ما يراه طرفاً في غابة، توحي بذلك تنويعات الألوان الخضراء والزرقاء المخضرة التي تسم ملابس النساء وقبعاتهن، بل المشهد ككل.
بالتدريج بعد ذلك يجد الناظر نفسه أمام مشهد اجتماعي يصور مجموعة نساء من سيدات المجتمع يقفن وكأن كل واحدة منهن تعيش حياتها الخاصة ودراما ذاتية في انفصال عن رفيقاتها. والحقيقة أن علينا أن نتفرس في الوجوه التي تبدو سيماؤها بالغة الابتعاد عن أناقة الملابس والإكسسوارات والوقفة نفسها، لكي ندرك أننا هنا في صدد انعكاس سيكولوجي لمجموعة من المآسي دون أن يكون من الضروري اعتبارها مآسي اجتماعية. فبعد كل شيء نحن هنا أمام مجموعة فرديات لا تشكل مجتمعاً إلا في الوقفة المشتركة.
ولعل من شأننا أمام هذا التفسير أن نفترض أن كيرشنر إنما كان يعلن في هذه اللوحة بالذات انتهاء ذلك الحس الجماعي الذي جعل الرفاق يتحلقون ذات لحظة مندمجين مع بعضهم بعضاً في حركة فنية واحدة تـ"جسر" الهوة القائمة بين البشر، ويرينا عبثية ذلك من خلال تلك الفردانية السيكولوجية التي تحملها وجوه النساء ونظرتهن.
والحقيقة، أنه إذا كانت هذه الفرضية تبدو مقحمة على اللوحة، ومن ثم على تاريخ الحركة التي تقدم دائماً بوصفها منتمية إليها، لا بد أن نتذكر هنا أن إرنست كيرشنر (1880 - 1945) كان هو الذي بادر قبل الآخرين في إعلان انفراط الحركة من ناحية، ورسم هذه اللوحة في الوقت نفسه من ناحية أخرى. ويصعب على المؤرخ المنصف ألا يرى رابطاً ما بين الفعلين!