أبدى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية، اهتماماً كبيراً بسكان الضواحي.
في المقابل، حرص بايدن أيضاً على استقطاب هذه الفئة من الناخبين، مدعياً أنه نشأ في هذه الضواحي.
فما سبب هذا الاهتمام بناخبي الضواحي، ومن هم، وما عددهم وتركيبتهم العرقية ومستوياتهم الاجتماعية واتجاهاتهم التصويتية، وهل صحيح أنهم يمكن أن يحسموا نتيجة الانتخابات؟
صراع الجغرافيا
يتصارع كل من ترمب وبايدن على كسب تأييد سكان المساحات الجغرافية الواقعة بين المدن الكبرى ذات الأغلبية الديمقراطية إلى حد كبير، والمناطق الريفية ذات الأغلبية الجمهورية، ألا وهم سكان الضواحي الذين يصل تعدادهم إلى 175 مليون أميركي يشكلون أكثر من نصف إجمالي عدد سكان البلاد.
وفي المناظرة الرئاسية الأولى التي جمعتهما، ادعى ترمب أنه إذا ما تمكن بايدن من أن يحكم هذا البلد، ستختفي ضواحي المدن، ويجلب إليها الفقراء والمجرمين ببرامجه الاجتماعية الاشتراكية ويهددون نمط الحياة فيها. ووجه ترمب نداءً إلى نساء الضواحي طالباً منهن دعمه في الانتخابات، على اعتبار أنه أنقذ مناطقهن السكنية. لكن بايدن اعترض على الفور، قائلاً إن "ترمب لا يعرف الضواحي لأنه نشأ في كوينز بمدينة نيويورك".
غير أن الحقيقة الساطعة هنا هي أن كلاً من بايدن وترمب عاشا في مجتمعات شبيهة بالضواحي داخل المدن الكبرى. فالرئيس ترمب نشأ في منطقة جامايكا إستيتس التابعة لبلدية كوينز في مدينة نيويورك، بينما نشأ بايدن في بلدية غرين ريدج التابعة لمدينة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا.
ما المقصود بالضواحي؟
في دراسة مسحية لمكتب الإحصاء والتعداد التابع للحكومة الفيدرالية عام 2017، وصف 52 في المئة من الأسر الأميركية بأنهم يقطنون الضواحي داخل الأحياء المتأرجحة التي ستقرر الانتخابات. لكن، من الواضح أن ترمب وبايدن يعنيان أموراً مختلفة تماماً عندما يتحدثان عن الفوز بأصوات سكان الضواحي. فما الذي يتحدثان عنه؟
قد يعتبر معظم الأميركيين أنفسهم من سكان الضواحي، لكن هذا لا يعني أنهم يعيشون في أماكن متماثلة بالضرورة، إذ يتغير تعريف الضاحية من شخص إلى آخر، إذ يعتبر البعض أن التعريف يتعلق بالمجتمعات الموجودة على مشارف المدن، في حين أن البعض الآخر يُعرِف الضواحي من حيث الشكل والصورة، أي أنها المجتمعات السكنية التي تضم منازل متماثلة البناء في أحياء ذات طرق مغلقة. ومن الناحية العملية، فإن تعريف الحكومة الفيدرالية للضاحية هو أي مكان يحيط بمدينة، ولكنها مناطق ليست حضرية لا ريفية.
وكشفت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2013 أنه لا يوجد إجماع على ما يشكل بالضبط مفهوم الضاحية، إذ كانت الضواحي تُحَدَد منذ زمن عبر عدد من المعايير، منها قرب المسافة من المدن وشكل وسائل النقل والمظهر العام. ووجدت دراسة مكتب الإحصاء والتعداد لعام 2017 أن معظم الأميركيين يعتبرون أنفسهم من سكان الضواحي. وأظهرت أن 27 في المئة منهم يصفون مناطقهم بأنها حضرية، في مقابل 21 في المئة يصفون مناطقهم بأنها ريفية. وهي تصنيفات يحدد فيها الأشخاص مناطقهم بحسب انخفاض الكثافة السكانية ومتوسط الدخل الأعلى والمنازل الجديدة في المنطقة.
أسباب النزاع
تبادل الاتهامات والنقاشات الساخنة بين ترمب وبايدن بشأن الضواحي جاء بعد صيف غرد فيه ترمب على "تويتر" أن لدى بايدن خطة من شأنها تدمير الضواحي، في إشارة إلى برامج سكنية يقول الرئيس، إنها اشتراكية الطابع، وإن الديمقراطيين يريدون إلغاء نظام تخصيص مناطق سكنية لأصحاب المنازل المستقلة، وذلك سيجلب فقراء ومجرمين إلى الضواحي. ما يجعل تلك المناطق غير آمنة وينخفض سعر وحداتها السكنية. وهو ما دفع بايدن إلى رفض هذا الخطاب الذي اعتبره عنصرياً، مؤكداً أنه يسعى للحفاظ على سياسات الإسكان العادلة التي طبقت في عهد الرئيس باراك أوباما، وتستهدف مكافحة الفصل في الإسكان على أساس عرقي، مع زيادة المعروض من منازل بأسعار معقولة.
ويروي مؤرخون عن ارتباط وثيق استمر لمدة عقود بين فكرة الضواحي التي ولدت وانتشرت بعد ثلاثينيات القرن الماضي، وكونها مساحة للسكان البيض ساعدتهم ممارسات إقصائية حكومية ضد الأقليات كانت تحول دون امتلاك السود والملونين المنازل من خلال رفض المصارف إقراض المشترين السود والملونين في المناطق الحضرية والضواحي. وهو ما كان سبباً رئيساً في حدوث فجوة في الثروة بين البيض الذين استفادوا من طفرة هائلة في أسعار المنازل داخل هذه الضواحي بعد الحرب العالمية الثانية، والسود والملونين الذين حرموا من هذه الطفرة.
لذا، فإن استحضار ترمب كلمة الضواحي باعتبارها إنجازاً للحلم الأميركي، هو أمر متجذر في أن الحلم قد تحقق من خلال سياسات تمييزية في ملكية المنازل.
وعلى الرغم من الإصلاحات التي سُنت في السبعينيات من القرن العشرين بهدف التخفيف من فجوة الثروة بين البيض وغيرهم من الأعراق الأخرى، والتي لا تنفصل عن قضية الإسكان في الضواحي، كانت في حاجة إلى مواصلة العمل خلال فترة حكم أوباما وبايدن، إذ صِيغت سياسات تنظيمية في عام 2015 لتعزيز الإسكان العادل والتغلب على الأنماط التاريخية التي رسخت الفصل بين الأعراق في السكن بهدف الوصول إلى مجتمعات خالية من التمييز. غير أن الرئيس ترمب ألغى القيود التنظيمية التي وضعتها إدارة أوباما، معتبراً أنها أثرت بشكل مدمر على الضواحي المزدهرة.
الواقع مختلف
غير أن تصور ترمب للضواحي التي يقطنها البيض فقط على أمل أن يصوتوا له في الانتخابات، ليس له وجود على أرض الواقع. فهناك كثير من السود والملونين يعيشون في الضواحي، وكثيرون منهم يملكون منازل. وقد تستفز تغريدات الرئيس ترمب الأميركيين من أصل أفريقي بما قد يدفعهم إلى المشاركة في الانتخابات بالتصويت لمصلحة الديمقراطيين.
ووفقاً لدراسات مسحية، فإن نصف الأميركيين الأفارقة في الولايات المتحدة يعيشون في الضواحي، ويتمتعون عادة بوضع اجتماعي واقتصادي أعلى مقارنةً بجيرانهم البيض، على الرغم من أن سكان الضواحي لا يزالون في الغالب من البيض حسب مركز بيو للأبحاث، إذ انخفضت حصتهم بين عامي 2000 و2016، من 76 في المئة إلى 68 في المئة من جميع سكان الضواحي.
ويزداد الفقر في الضواحي بسبب التوسع في الوظائف، إذ تشير دراسة أجراها معهد بروكينغز إلى أن الزيادة في عدد فقراء الضواحي يعود إلى توافر الوظائف التي تتطلب مهارات متدنية مثل الخدمات أو التصنيع، والتي انتقلت إلى الضواحي، وأن عدد سكان الضواحي الذين يعانون من الفقر يتزايد بمقدار ضعف معدل المدن الرئيسة.
اتجاهات التصويت في الضواحي
ويتفق كثيرون من المراقبين على أن زيادة الحجم الهائل للضواحي في السنوات الماضية يعني أنه لا يمكن اعتبار سكانها كتلة تصويت متجانسة. فيما تتزايد طلبات شراء المنازل في الضواحي بسبب جائحة فيروس كورونا. مما سيؤدي إلى مزيد من التغييرات التي تهدد رؤية ترمب للضواحي الأميركية التي أصبحت غير واضحة المعالم.
وقد تدفع نداءات ترمب لسكان الضواحي الأميركيين من أصل أفريقي إلى العمل ضده في الولايات المتأرجحة والسباقات التنافسية، في حين يمكن أن يكون لمناشدات ترمب تجاه ناخبي الضواحي التأثير المطلوب، وبخاصة كسب دعم النساء من البيض في تلك المجتمعات التي أشارت استطلاعات الرأي إلى تراجع حظوظ ترمب فيها. إلا أن ذلك يمكن أن يحفز أيضاً سكان الضواحي الآخرين على تعبئة الأشخاص.
وإذا كان طريق الفوز عام 2020 يمر عبر الضواحي، لن يكون الطريق واضحاً، إذ تصعب معرفة إذا ما كان هناك توافق سياسي بين سكان الضواحي في شأن الهدف المشترك. وقد يكون هناك كثير من الجدل على طول الطريق بخصوص الاتجاه الصحيح الذي يجب أن تسلكه الأمة الأميركية في المستقبل.
