تخيلوا المشهد في 20 يناير، يوم بارد في واشنطن، تحديداً في البيت الأبيض ومبنى الكابيتول وخارجهما. وهذا المبنى الأيقوني الأخير مُزين بالأعلام الأميركية ونخب البلاد، ووجود بعض الرؤساء السابقين مع مراعاة التباعد الجسدي. ولكن يبقى ثمة غائب واحد عن هؤلاء.
لقد أدى جو بايدن للتو اليمين بصفته الرئيس الـ46 للولايات المتحدة، وها هو يترجل من الليموزين الرئاسية لإلقاء التحية على المصطفين في شارع بنسلفانيا.
في وقت سابق من صباح ذلك اليوم، غادر دونالد ترمب البيت الأبيض على مضض بمحض إرادته. ولكن، بدلاً من تناول الشاي مع جو بايدن وزوجته جيل، كما جرت العادة الأميركية، أن يفعل القائد العام المنتهية ولايته، استقل الرئيس الخامس والأربعون وزوجته ميلانيا ترمب (المروحية الرئاسية) "مارين ون" إلى قاعدة "أندروز" (قاعدة بحرية جوية مشتركة) للحاق بالطائرة الرئاسية "إير فورس ون".
في منتصف الرحلة، ستتحول الطائرة إلى "إكزيكيوتيف ون". هذا هو اللقب الرسمي لطائرة بوينغ 747-200 المستخدمة لنقل الرؤساء السابقين إلى الوجهة التالية بعد تنصيب رئيس جديد.
ومع هبوط الطائرة، التي طالما أراد ترمب تغيير ألوانها وإعادة طلائها بالأحمر والأبيض والأزرق، في جنوب فلوريدا، وسيرها لتتوقف أمام مئات ممن تبقوا من أنصاره، تستقبلها قافلة من سيارات الدفع الرباعي السوداء التابعة لجهاز القوات الخاصة السرية الأميركية.
لكن، ومن الاتجاه الآخر من مدرج المطار، يأتي عدد أقل من السيارات الحكومية (شيفروليه) من طراز "سوبربان" ذهبية اللون، ربما ذات لوحات تسجيل من نيويورك، تحمل في داخلها عملاء وزارة العدل من محكمة منطقة جنوب نيويورك.
يقترب رئيس المحققين من المدير الجديد للخدمة الأمنية الخاصة بترمب في مرحلة ما بعد الرئاسة، وهي الخدمة التي تُمنح لجميع الرؤساء التنفيذيين السابقين، ويُعرب له عن رغبتهم في تبادل كلمة (مناقشة مسألة)، لا بل كلمات على مدى أيام، مع الرئيس السابق الآن.
وبمجرد أن يترجل ترمب وميلانيا من الدرج المتنقل، إلى أرض فلوريدا لبدء المرحلة التالية من حياتهما، يسود ارتباك بشأن مكان الاستجواب.
لكن الأماكن المريحة وفيرة. هل يجري الاستجواب في مبنى فيدرالي في منطقة بالم بيتش الكبرى؟ أو في مقر إقامة ترمب الجديد داخل منتجعه في مار أي لاغو؟ أو أثناء جولة غولف غير ودية أو خلال غداء عمل في فندقه القريب؟
ثم يبرز سؤال عن أي موكب عليه نقل الرئيس السابق، (وهو المعني أو اللاعب الكبير في نحو 20 تحقيقاً جنائياً محلياً على صعيد ولاية نيويورك)، إلى موقع جولة الاستجواب الأولية هذه؟
وبعد مشاجرة محتدمة، تلتقطها كاميرات عشرات وسائل الإعلام المحلية والوطنية والدولية الموجودة في مطار بالم بيتش الدولي لتوثيق عودته إلى الحياة المدنية، يتفق فريق مكتب التحقيقات الفيدرالي وفريقه الأمني على أن يستقل سيارة "سوبربان" الحكومية، محاطة بسيارات العملاء الفيدراليين في موكب مختلط.
تخيلوا شاشات التلفزيون المقسمة في جميع أنحاء البلاد والعالم. من جهة، يلوح جوزيف روبينيت بايدن الابن مبتسماً ومفعماً بالحماسة لأنصاره، وهو يستعد لدخول المكتب البيضاوي كرئيس لأول مرة. ومن الجهة الأخرى، يُشاهَد دونالد جون ترمب الغاضب ومكفهر الوجه وهو ينقر على جهاز آيفون الخاص به، ثم يصرخ على شخص كان من سوء حظه التواجد على الجانب الآخر من مكالمة ترمب الهاتفية الأولى، باعتباره مشتبهاً فيه بشكل رسمي في قضية جنائية فيدرالية.
كما قال ترمب نفسه عدة مرات: تخيلوا نسب المشاهدات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يبدو هذا السيناريو درامياً بشكل مبالغ فيه، مثل الروايات السياسية المثيرة أو أفلام الدرجة الثانية؟ ربما. لكن هذا هو عهد ترمب. وهذا يعني أنه لا يوجد ما هو مستغرب إلى حد كبير أو حتى محظور. وكما يقول مراراً وتكراراً هذه الأيام صديق صدوق لهذا المراسل، وهو أحد المخضرمين في سياسة واشنطن، "لا شيئ يهم بعد الآن".
يمكن أن يشمل هذا أيضاً الاحترام الذي يتمتع به الرؤساء السابقون، والذي يُعد نوعاً من التقدير مدى الحياة لأولئك الذين تولوا ربما أصعب وظيفة في العالم.
من ناحية أخرى، ستنتهي ولاية المدعي العام ويليام بار، الذي أظهر ولاءً كبيراً لترمب، مثلما ستنتهي ولاية ترمب نفسه، بلا شك فور أداء بايدن قسم الرئاسة. والأكثر من ذلك، على الرغم من التغييرات في سدة هرم وزارة العدل، إلا أن محكمة المنطقة الجنوبية لولاية نيويورك لم تُظهر تعاطفاً مع ترمب.
هناك ما لا يقل عن 12 تحقيقاً فيدرالياً على مستوى الولاية، تتناول ترمب وحملته لعام 2016 ومعاملاته التجارية، وفقاً لقائمة أعدتها صحيفة نيويورك تايمز. وتشمل تلك التحقيقات مدفوعات سرية محتملة لشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانيلز وغيرها، وما إذا كان فريق ترمب قد عرض العفو على "مساعده" السابق ومحاميه الشخصي مايكل كوهين، ومزاعم تضخيم أصوله أمام شركات التأمين، وعمليات أخرى محتملة غير قانونية مرتبطة بالاحتيال على شركات التأمين، وإساءة استخدام الصناديق الخيرية، ومختلف الانتهاكات في تمويل الحملات الانتخابية، والتربح من المناصب الرسمية من قبل أفراد منظمة ترمب، المعروفة أيضاً باسم الشركة العائلية.
لكن مهلاً فالأمور لن تقتصر على هذه المسائل. يبدو أن المحققين الفيدراليين حريصون أيضاً على التحدث مع الرئيس حول عدد كبير من الأمور المتعلقة بوضعه الضريبي الغامض، لنقُل ذلك بشكل دبلوماسي.
وبعد مراقبة سير عمل ترمب عن كثب على مدى نصف عقد من الزمن، ودراسة أفعاله منذ ما قبل دخوله السباق الرئاسي في عام 2015، سيلاحظ المرء أن ثمة أوجه شبه مع المنظمات التي تعمل، يمكننا القول، على هامش القواعد والقوانين.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى ما قاله ذات مرة توني سوبرانو، زعيم عصابة خيالية في مسلسل تلفزيوني، "إذا كان بإمكانك اقتباس القواعد، فيمكنك التزامها". وهذا الرئيس لم يسبق أن اقتبس القواعد مطلقاً، وبدلاً من ذلك سعى لتفسيرها وحاول التأثير على تصورات الآخرين، بشأن كيفية تحريفه للقواعد ودفعها إلى حافة الانهيار.
وفي حديث لاذع لا ينسى، قال رئيس منظمة سوبرانو أيضاً إنه "مع كل الاحترام، ليست لديك أدنى فكرة عما يعنيه أن تكون رقم واحد. إن أي قرار تتخذه يؤثر على كل الجوانب الأخرى. وهذا يكاد يفوق جداً ما يمكن تحمله وتولي أمره. وفي النهاية، تجد نفسك وحيداً في مواجهة ذلك كله".
هناك ما يكفي من الأدلة، لمعرفة أن ترمب لم يكن أبداً من النوع الذي يفوض مهامه للآخرين، فهو لا يثق بهم بما يكفي، ليترك القرارات الكبيرة في أيدي "الأقل كفاءة". إنه مدير تنفيذي عملي ورئيس عملي.
لقد اتخذ دونالد جون ترمب عدداً لا يحصى من القرارات المؤثرة، والمشكوك فيها للغاية، في تعاملاته الخاصة والرئاسية، وقد استدعت تلك القرارات فتح تحقيقات من قبل النظام القانوني مراراً وتكراراً. وقد يكون، في القريب العاجل، وحيداً في مواجهة ذلك كله.
© The Independent