فجأة، ومن دون مقدمات، يندلع الحريق وتلتهم النيران آلاف أشجار النخيل المثمرة، وتحوِّل خلال ساعات معدودة، مساحات ممتدة من الخضرة، إلى حقول من الرماد والحطام الأسود، حرائق ضخمة تندلع على نحو مفاجئ من دون سابق إنذار أو إشارة، في مزارع النخيل وبساتينها، في أقصى شمال السودان، وصارت ظاهرة لا تخلو من غموض، تتكرر بمعدل مرتين أو أكثر خلال كل عام وأقل في بعض الأحيان، وما يضاعف القلق الذي تثيره، كونها تضرب أكبر المناطق الغنية بأشجار النخيل، وأكثرها إنتاجاً لمعظم أنواع التمور والبلح في البلاد، وهي نفسها الأكثر تضرراً ومعاناة، من ألسنة اللهب الدورية، التي تقضي على الآلاف منها في كل حريق.
هول الصدمة، حمل العديد من بسطاء المزارعين والأهالي حين غاب المبرر الظاهر، إلى الاختباء وراء الغيبيات، بالاعتقاد بأن عفاريت من الجنّ، ربما هي التي تضرم النيران عمداً وخلسة طمعاً في الأرض، وبينما يسخر اختصاصيون في مجال الزراعة والنخيل من هذا الزعم البسيط، يرون أنه، ومن سخرية القدر، أن يكون سبب الحريق من جنس ثمرة شجرة النخيل ذاتها، ويتهمون بالدرجة الأولى حبات نوى البلح المنسية إهمالاً، بأنها هي التي وراء إشعال الحرائق عند تعرضها الى درجات الحرارة العالية.
الخسائر كبيرة والحرائق مستمرة
أحدث حلقات مسلسل حرائق النخيل بأقصى شمال البلاد، وقعت قبل حوالى 10 أيام مضت، بمنطقة وادي حلفا، إذ التهمت أكثر من 750 نخلة مثمرة، وبعض بساتين الموالح والفواكه الأُخرى المجاورة، لكن يبدو أن الأمر لم يعد محصوراً في المناطق الشمالية، فقد بدأ الخطر يتمدد جنوباً بكل خسائره وأوجاعه، وللأسباب والعوامل نفسها، حتى وصل إلى ولاية نهر النيل، ما يعزز المخاوف ويقرع بشدة ناقوس الخطر من جديد.
تقدر الخسائر السنوية في أصول النخيل بسبب الحرائق، حوالى 1000 إلى 5000 نخلة كل عام، وبالنظر إلى عمر النخلة المقدر بحوالى 100 عام، فهي تحتاج بين خمس و10 سنوات لتبلغ مرحلة الإثمار، ما يجعل من الصعب تحديد حجم الخسائر المادية بصورة قاطعة، لكنها تبدو أكبر بكثير من مجرد الحصر لعدد الأشجار التي يلتهمها الحريق كل مرة.
لا تقتصر الخسائر الكبيرة، المترتبة على مسلسل الحرائق، على الشق المادي فحسب، بل تتعداها إلى التهديد بفقدان أصول من النخيل السوداني المعروف بجودة أصنافه وضياعها، خصوصاً بعد دخول تقنية زراعة الأنسجة والتكاثر النسيجي، ما يهدد باختفاء سلالات ممتازة من التمور التي اشتهرت بها مناطق الدناقلة والمحس بأقصى شمال السودان، إلى جانب أصناف من أشجار نخيل "الجاو" التي تنتج العجوة وعسل البلح، المميزة عالمياً، وكلها أصبحت الآن مهددة بعد تقلص أعدادها بصورة كبيرة بسبب الحرائق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرجِع المدير التنفيذي لجمعية فلاحة ورعاية النخيل السودانية، عماد إدريس فضل المولى، تكرار مسلسل الحرائق إلى مجموعة عناصر متضافرة في مقدمها إهمال المزارعين عمليات نظافة البساتين، وتركهم حبيبات نوى البلح التي تتمتع بخاصية الاشتعال الذاتي عند تعرضها لدرجات الحرارة العالية، نظراً لاحتوائها على مادة زيتية سريعة الاشتعال والتأثر بالحرارة، كما أنها تعتبر وسيطاً جيداً لنقل النيران بصورة تشبه خاصية البنزين، بالإضافة الى تراكم مخلفات جريد النخل الجاف على الأرض أو معلقة على الأشجار، ما يعتبر عاملاً مساعداً، يؤجج النار، وتزكّيها أيضاً الرياح وتنقلها بسرعة بين الأشجار المتقاربة، مستبعداً في الوقت عينه ما يردده عامة الناس من تأويلات شعبية متداولة، بخصوص أنها من فعل الجن.
تحذير من انتقال الحرائق جنوباً
حذر فضل المولى من خطورة بدء انتقال الحرائق من مناطق تركّزها شمال البلاد، إلى الجنوب لتصل إلى عدد من المناطق بولاية نهر النيل، حيث شهدت أربعة حرائق كبيرة للنخيل، خلال الفترة الماضية، لأكثر من 1000 نخلة، بمنطقتي الدبة ونوري، ما يتطلب تضافر الجهود الشعبية والرسمية، ودعم إمكانات الدفاع المدني الذي يعاني نقصاً كبيراً في الآليات والقوة البشرية.
ولفت المدير التنفيذي لجمعية فلاحة ورعاية النخيل السودانية إلى أن الحرائق التي ظلت تتعرض لها أشجار النخيل بمناطق شمال السودان تتزايد مع رياح الشتاء والخريف الموسميتين، وتهدد بالتوسع الى مناطق أخرى جديدة، مع استمرار إهمال المزارعين حصاد بعض الأشجار الفارعة الطول، وتساقط ثمارها ما يخلف كميات كبيرة من نوى البلح، التي تتحول إلى كابوس مرعب عند تعرضها للحرارة.
أضاف فضل المولى، "في السابق، كانت حبات النوى تستخدم كعلف بعد معالجتها بالماء لاحتوائها على نسبة عالية من البروتينات المفيدة للحيوانات، وفي نيران الطهي بعد تجفيفها، لكن مع اختفاء تلك العادات والاستخدامات، كثرت كمياتها المتراكمة داخل البساتين، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً، بوصفها أحد أهم أسباب الحرائق، مشيراً إلى أن الجمعية درجت على تسيير قوافل توعوية إرشادية وسط المزارعين لتثقيفهم حول المخاطر وتعليمهم وتدريبهم على كيفية حماية أشجار النخيل والمحافظة عليها.
محاولات إنقاذ سلالات وراثية مميزة
كشف فضل المولى عن إطلاق الجمعية مشروعاً، في منطقة دنقلا على وجه التحديد، بهدف إنقاذ تلك العينات والحفاظ على نوع التمور المهددة بجدية في ظل استمرار الحرائق، وللتخلص من بقايا الجريد الجاف ومخلفات الأشجار، التي تتسبب بذلك.
وكشف مدير جمعية النخيل عن مساع للاستفادة من مبادرة لتوظيف مخلفات النخيل في تصنيع مكعبات الفحم والأخشاب، ودعم صناعات التراث الوطني، كالسلال والمشغولات اليدوية الأخرى، التي قُدمت إلى منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، لتبنيها كأحد الحلول المبتكرة للحد من الحرائق، وتخفيف خسائر المزارعين.
الإهمال والغابات العشوائية
عزا مالك محمد إبراهيم، مدير إدارة الزراعة في الولاية الشمالية، تركّز حرائق النخيل في المناطق الشمالية من الولاية إلى إيلاء مزارعي المناطق الجنوبية اهتماماً أكبر وعناية أفضل ببساتينهم مقابل إهمال مزارعي المناطق الشمالية، مبيناً أن هجرة الشباب وتناقص الاعتماد على زراعة النخيل كمصدر رئيس للدخل، بالمناطق الشمالية، انعكس في صورة إهمال واضح للبساتين، وعدم نظافتها من الأعشاب وبقايا الأشجار الجافة، كما أدى عدم الالتزام بالمسافات العلمية بين كل نخلة وأخرى، إلى تكدس الأشجار وتحويل البساتين إلى غابات شبه عشوائية، ما يؤدي إلى صعوبة السيطرة على الحرائق، ويتسبب في سرعة انتشارها، وتدميرها مساحات واسعة وأعداد كبيرة من الأشجار.
وأرجع العقيد عبد الجليل عبد الرحيم، الناطق الرسمي باسم المجلس الأعلى للدفاع المدني، سبب الحرائق إلى ما سبق القول، كما أن تكدس الأشجار يمنع دخول عربات الإطفاء إليها نتيجة عدم وجود ممرات تسمح بذلك.
ودعا، عبد الرحيم إلى ضرورة تجهيز مضخات للمياه داخل البساتين، مؤكداً استعداد مجلس الدفاع المدني تدريب فرق أهلية للتصدي لتلك الحرائق.
يذكر أنه منذ منتصف التسعينات، بدأت حرائق بساتين النخيل تظهر بصورة متقطعة من حين إلى آخر، لكن وتيرتها بدأت تتزايد تدريجاً منذ العام 2002، وفي السنوات الخمس الأخيرة، تحولت الحرائق إلى ظاهرة خطيرة مزعجة، بمعدل أكثر من ثلاثة إلى أربعة كبيرة في العام الواحد، مع اتساع المساحات التي تلتهمها النيران.