عند رحيل الممثّل الاسكتلندي الكبير شون كونري قبل أيام عن 90 عاماً، ركز الإعلام العربي على موت جيمس بوند، وكأن مسار الممثل وقفٌ على هذه الشحصية البوليسية الشعبية التي كان شونري واحداً من أهم من أداها. لكنّ كونري صاحب شخصيات وادوار تاريخية بارزة وسم بها عالم السينما العالمية. رحل كونري في نومه مختتماً حياة مجيدة عاشها على أوسع نطاق. عانى الخرف خلال الفترة الأخيرة، بحسب زوجته ميشلين روكبرون التي صرحت بأن البقاء من بعده لن يكون سهلاً، ولكن عزاءها الوحيد أنهما عاشا سنوات رائعة معاً منذ زواجهما العام 1975.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البطل الأسطوري الذي لا يقهر ويخرج من كل معركة أقوى مما كان قبلها، والذي اشتهر في العالم من شرقه إلى غربه بشخصية العميل السري جيمس بوند، أغمض عينيه مرة أخيرة، وكاد أن ينسى كل شيء أنجزه، لكن جمهوره لن ينسى. وعلى الأرجح ستغذي أفلامه الباقية إلى الأبد ذاكرته السينمائية. وعلى الرغم من الشيخوخة ظلّ كونري محاطاً بشيء من السحر والغموض، بذقنه الأبيض وصلعته المميزة، إذ كان الأكثر بريقاً بين أقرانه، حتى بعد سنوات طويلة قضاها في التمثيل الذي وضعه على عرش النجومية.
خلال سنواته الأخيرة انتشرت له صور عدة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ترينا إياه كهلاً ثمانينياً يمشي متكئاً على عصاه، عابراً الشارع مع مرافقه. هذه الصور لوحدها كفيلة بإنعاش ذاكرة أجيال عدة من محبي السينما وعشاقها، الذين ارتبط بهم كونري ارتباطاً زمنياً، فهو للبعض منهم بمثابة الأيقونة التي ما استطاع أحد من بعده ارتداء سموكينغ جيمس بوند من دون أن يقارن به، أما للبعض الآخر فكان الممثل اللافت الذي جسد أدواراً في أفلام مثل "الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً" لجون هيوستن.
بين اتجاهين
وبين اتجاهين أحدهما فني خالص والثاني جماهيري، شق الراحل طريقه وصولاً إلى ذروة المجد، وعرف كيف يكون صلة الوصل بين الأجيال والأنواع السينمائية المختلفة. لم تكن له موهبة مارلون براندو ولا أدوار دانيال داي لويس المركبة، لكنه كان ممثلاً ممتازاً خدم كل دور تقمصه إلى أبعد حد. هو ابن مدبرة منزل وعامل بسيط، تحدر من بيئة متواضعة، وترك المدرسة باكراً ليعمل في مهن متفرقة قبل أن ينضم إلى البحرية لثلاث سنوات. كان بارعاً في الرياضة، فاشتغل طويلاً على لياقته البدنية التي أسهمت مع وسامته في دفعه إلى الواجهة، فأصبح رمزاً للرجل الأنيق الذي يتشبه به الرجال وترغبه النساء. لا نكرهه حتى عندما يشهر مسدسه. وقف كغاو كبير في وجه نساء مثل جينا لولوبريجيدا وبريجيت باردو وجوان وودوارد وكاثرين زيتا جونز وغيرهن.
لم يفعل كونري سوى ارتداء الشخصيات ونزعها عن جلده. كيف يمكن للمرء أن يمر ولو بسرعة على سيرة تمتد نحو نصف قرن، حتى تاريخ اعتزاله عام 2003. غيوم دو باسكرفيل، جيم مالونه، مارك روتلاند، إدوارد برس، كولونيل آربوثنوت، ماريشال وليم تي أونيل، الملك آرثر، ريكاردو قلب الأسد، وليم فورستر، هنري جونز… هؤلاء بعض الأشخاص الذين جسّدهم كونري على الشاشة في بعض من أفلامه التي بلغ مجموعها 70.
أول ظهور لكونري على الشاشة يعود إلى العام 1954، في فيلم "ليلاكس في الربيع"، وكان يومها مجرد كومبارس في مشهد. بعد ذلك شارك في مسلسلات عدة إلى أن أسند في العام 1958 دوراً في "زمان آخر... مكان آخر" للويس آلن، فجسد شخصية مراسل لإذاعة "بي بي سي" البريطانية يرتبط بعلاقة عاطفية مع سيدة متزوجة تضطلع بدورها لانا ترنر. في الفيلم ترك كونري انطباعاً لدى الجمهور بأنه الرجل القوي اللعوب الذي يجعل النساء يقعن في حبّه ثم يهرب. في العام التالي، لعب في فيلم رومنسي تحت عنوان "داربي أوجيل والناس الصغار" لروبرت ستيفنسون، وكان الشاب الذي تقع في حبّه فتاة إيرلندية، إلا أن ملامحه القوية والعنيفة جعلت زوجة المنتج الشهير ألبرت بروكولي ترشحه للعب شخصية جيمس بوند، بعدما وجدت فيه جاذبية خاصة على الشاشة، ويقال إن السيدة بروكولي قالت إنه سيكون رخيص الثمن ولن يطلب أموالاً باهظة لتجسيد دور العميل السري، علماً أن آخرين من مثل كاري غرانت وجيمس مايسون كانوا مرشحين للدور.
هكذا ولد "دكتور نو" عام 1962، أول فيلم من سلسلة أفلام بوند الذي أخرجه ترنس يانغ، ومن الإيرادات العالية التي حققها في شباك التذاكر تمخضت الظاهرة الكونية التي لا تزال مستمرة إلى اليوم، فنجاحه كان يكشف حاجة الجمهور إلى هذه الخفة والأناقة المغلفة بالدعابة البريطانية والحركة والحاجة إلى التسلية التي كانت مفقودة في سينما تلك الفترة، من دون أن ننسى ذلك المشهد الأسطوري الذي أصبح العلامة الفارقة في الفيلم: خروج أورسولا أندروز المثير من مياه البحر وهي ترتدي البيكيني.
شخصية طرزان
بعد "مغامرة طرزان الكبرى" لجون غيليرمان عام 1959، كان من المفترض أن يواصل كونري سلسلة أفلام يجسّد فيها شخصية طرزان بدلاً من الممثل غوردون سكوت، إلا أن دور بوند كان قد بدأ يصنع شهرته في العالم، لذا لم يقبل الاستمرار في طرزان بعدما وضع قدميه على القمّة. لا شك في أن بوند من أهم المحطات في سيرته المهنية، ولكن لا يمكن اختزاله فيه. سبعة أفلام قدمها في هذه السلسلة وهي "دكتور نو" (1962)، "من روسيا مع الحبّ" (1963)، "غولدفينغر" (1964)، "كرة العاصفة" (1965)، "لا تعيش إلا مرتين" (1967)، "الجواهر للأبد" (1971) و"لا تقل أبداً مرة أخرى" (1983).
من خلال هذه السلسلة وصل كونري إلى قمة الثراء المادي، وأصبح أغلى نجم في هوليوود في تلك الفترة، وكان يطالب بزيادة أجره في كل مرة يعرض عليه هذا الدور، لدرجة أنه طلب ذات مرة من منتجي فيلم "الجواهر للأبد" أن يمولوا مشروعه لتربية الحيوانات الأليفة. وعن دوره هذا قال، "شخصية بوند كانت تتطلب من الشخص الذي يلعبها أن يحمل في داخله إحساس الخطر وينقله للمشاهدين على أنه خطير ويمثل تهديداً، لأن هذا التهديد هو عامل الجاذبية الأهم في الشخصية. كان عليّ أن أؤدي هذا الدور جيداً، والا فسيطلب المنتجون والجمهور نقودهم، ولو حدث ذلك لتوقفت عن التمثيل وعدت لبيع اللبن".
في العام 1964 مثل كونري في "مارني" تحت إدارة ألفرد هيتشكوك، إلا أن الفيلم لم ينجح جماهيرياً، مما جعل سيد التشويق يعلن في الصحف أنه نادم على اختيار كونري لهذا الدور. وفي هذه الأثناء مثّل في "التل" لسيدني لاميت (1965) الذي حقق نجاحاً كبيراً لتجسيده دور الجندي ضحية النظام السادي في معسكر الجيش خلال الحرب العالمية الثانية. وتميز كونري بالصرامة في تقمص دور الفتى اللعوب والرجل المحتال الذي يمثل خطراً على من حوله، ولكن على نحو ساحر يجذب المشاهدين إليه ويجعل من قبوله وجاذبيته أمراً مؤكداً.
حاول كونري الخروج من عباءة بوند، وشارك في بطولة أفلام تتنوع بين الخيال العلمي والرومانسية والروايات المتموضعة في بيئة العصابات، مثل "الخيمة الحمراء" لميخائيل كالاتوزوف (1969) و"زاردوز" لجون بورمان (1974) و"الرياح والأسد" لجون ميليوس (1975)، والفيلم السياسي "الرجل التالي" لريتشارد سارافيان الذي كان يدور حول الصراع العربي - الإسرائيلي من إنتاج العام 1976.
أدوار تناسب العمر
بتقدمه في العمر، بدأ كونري يتحرك في أدوار معينة تناسب عمره، حتى وصل إلى الأدوار الثانوية في الثمانينيات. ومع بلوغه الخمسين كان ما زال يحتفظ بوسامته وصحته، وكان سعيداً بهذه الفترة من حياته، مدركاً أن لكلّ فترة أدوارها.
أطل في "خارج الأرض" لبيتر هايمز و"عصابات الوقت" لتيري غيليام (كلاهما إنتاج 1981) و"اسم الوردة" لجان جاك آنو و"هايلاندر" لراسل مولكاهي (كلاهما من إنتاج 1986). كان يقول إنه عندما يدخل الممثل الخمسين فسيواجه مشكلة في الحصول على الأدوار الجيدة، ولكن الأوروبيين الذين ينتمي إليهم قلباً وقالباً يتقبّلون كبر السن بصورة أفضل من الأميركيين.
عمل كونري في إدارة المخرج الكبير سيدني لاميت خمس مرات، ومن بينها فيلمه "الإهانة" في العام 1972 حين لعب دور شرطي يتعقب خطى مغتصب فتيات يافعات. الفيلم لم يوزع في كثير من البلدان لقتامة موضوعه، ولأن الشركة المنتجة "يونايتد أرتيستس" كانت تخاف من أن ينعكس سلباً على شخصية بوند.
لم ينس كونري إطلاقا مسقط رأسه أسكتلندا، وظل يتبرع للكثير من المنظمات الخيرية فيها، وساند الحزب الوطني الاسكتلندي بقوة، ما جعله موضع نقد من بعض الصحف ووسائل الإعلام، علماً بأنه كان دائماً صريحاً وواضحاً، ولم يخف يوماً أفكاره وتوجهاته السياسية. كان يلبس الزي الرسمي الاسكتلندي بكلّ فخر. وله صورة شهيرة مرتدياً الكيلت التقليدي يوم منحت الملكة إليزابيث الثانية له لقب السير في العام 2000.
يُقال إنه من أسعد أيام حياة كونري يوم حصوله على جائزة "أوسكار" أفضل ممثل في دور ثانوي عن دوره في فيلم "ذا أنتاتشبلز" لبراين دبالما (1987)، الذي اشترك في بطولته مع كافن كوستنر وروبرت دنيرو. لا يمكن أن ننسى دوره كذلك تحت إدارة ستيفن سبيلبرغ للمرة الأولى في "إنديانا جونز والمحارب الأخير" عام 1989. أما آخر فيلمين بارزين أطل عبرهما فهما "صيد أكتوبر الأحمر" لجون ماكتيرنان (1990)، المقتبس من رواية توم كلانسي التي تجري أحداثها خلال الحرب الباردة، و"ذا روك" لمايكل باي (1996) حيث لعب دور النقيب باتريك جون مايسون.
وشخصياً يستهويني فيلمه ما قبل الأخير، "البحث عن فورستر" للمخرج الأميركي غاس فان سانت، حيث يؤدي دور وليم فورستر، الكاتب والروائي المعتزل (صاحب كتاب واحد ووحيد) الذي أغلق بابه أمام شهرة تعود إلى 20 عاماً مضت، وإلى حقبة كتب فيها رواية أصبحت من ذلك الوقت موضوع إجلال، وتُباع نسخها مثل أرغفة الخبز.
كان معيار تقبّل كونري لأي فيلم منذ أن بدأ التمثيل هو أن يجده مثيراً وشيقاً ويحضّه على التفكير، وهذه خلطة نادرة.
في إحدى المقابلات التي أعطاها عندما كان لا يزال نشيطاً، قال إن "في تاريخ كل ممثل أفلاماً سيئة وغير راض عن أدائه فيها، أما أنا فأعترف أنني أكثر ممثل لديه سجل من الأفلام السيئة في هوليوود، ولم أندم على أي دور قبلته. ما زلت أمثل لأنني ما زلت قادراً على العطاء، وليس لأنني أحتاج المال، وأعتقد أنه لا بد أن أكون واقعياً وأدرك أن فرصي في تجسيد شخصية مثل روميو قد انتهت، ولكن هناك شخصية الجد التي أتمنى تقديمها بصورة مختلفة".