على الرغم من أن القتال يدور بين أرمينيا وأذربيجان، فإن الفارق الأكبر في كون الأذريين يقاتلون داخل أراضيهم من الناحية القانونية، من أجل استعادة كامل إقليم ناغورنو قره باغ، ومناطق أذرية أخرى تحيط بالإقليم، وتسيطر عليها أرمينيا منذ 1991، ويوجد أربعة قرارات لمجلس الأمن تؤكد ملكية أذربيجان لتلك الأراضي.
واليوم، مع إعلان باكو سيطرتها على بلدة شوشا الاستراتيجية في قلب قره باغ، وباتت قواتها على بُعد عدة كيلو مترات من عاصمة الإقليم "خانكاند"، ويطلق عليها الأرمن "ستيبانكيرت"، ما يعني أن هذه الحرب باتت في المراحل قبل النهائية من نزاع امتد أكثر من ثلاثين عاماً، وبدأت معاركه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
وكشف تجدد اشتعال المعارك في جنوب القوقاز، أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، عن عدم فاعلية الأساليب السياسية القديمة، فلا نداءات روسيا، ولا دعوات الولايات المتحدة، ولا حتى مجلس الأمن الدولي، تؤثر في الوضع حتى الآن، ولا سيما أن التغييرات التي طرأت على خريطة السيطرة في ساحة المواجهات، لا تناسب لا باكو، ولا يريفان.
فرنسا ضد تركيا ولكن
الواضح اليوم أن موسكو وحدها "حتى الآن" باستطاعتها أن تلعب دورَ وسيط مؤثراً في أزمة جنوب القوقاز، وتدعو الأطراف إلى التفاوض في الوقت الذي نجد فيه واشنطن مشغولة بملفات داخلية وقضايا أكثر أهمية، مع ظهور انحياز فرنسي، عبر عنه في أكثر من تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو ما دفع أذربيجان إلى إعلان أن باريس "ليست طرفاً محايداً".
ويصعب النظر إلى التحرك الدبلوماسي الفرنسي حيال نزاع القوقاز فحسب من خلال تأثير اللوبي الأرمني في فرنسا، حيث نلاحظ ماكرون معارضاً لأنقرة في البحر المتوسط، وكذلك الموقف الفرنسي من الخلافات التركية – اليونانية، وقضية قبرص المعقدة، والمواجهة في ليبيا، ودعم باريس الإرهاب الانفصالي في الجمهورية العربية السورية، ويبدو أن ماكرون يحاول استخدام الصراع في قره باغ لتعزيز موقع بلاده داخل الاتحاد الأوروبي.
وتقود روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا مجموعة "مينسك"، تحت مظلة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي ترعى المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا منذ أكثر من 28 عاماً، ويمكن القول إن المجموعة تكاد تكون الإجماع الوحيد تقريباً بين روسيا والغرب في الفضاء الأورو آسيوي.
وصحيح أن أزمة جنوب القوقاز تكاد تكون القضية الوحيدة التي لا نرى فيها خلافات بين روسيا والغرب "حتى اليوم"، ولكن قد يكون ذلك ظاهرياً، بينما في حين الغوص في تفاصيل النزاع وتعقيد علاقات طرفَيه (أذربيجان وأرمينيا) مع ثلاثي مجموعة "مينسك"، تنكشف أشياء معاكسة، لا سيما مع ربط ملفات أخرى تتعلق بالعلاقات بين موسكو وكل من باريس وواشنطن، مع الأخذ في الاعتبار أن باكو لم تعد ترى في باريس طرفاً محايداً.
من الضروري عدم إغفال حقيقة أن الظروف التي انطلقت فيها مجموعة "مينسك" في أوائل التسعينيات، تختلف عن اليوم، فروسيا تغيرت، وتغيرت أيضاً أذربيجان وأرمينيا، مع ملاحظة أن يريفان خسرت في معارك الشهر الأخير كثيراً من المناطق كانت قد سيطرت عليها خلال حروب التسعينيات، من دون الحصول على أي مكاسب سياسية تتعلق بإقليم ناغورنو قره باغ، وأي مفاوضات جديدة ستنطلق من هذه الحقيقة.
في المقابل، لم تتمكن أذربيجان من استعادة كامل أراضيها المحتلة حتى الآن، ويوجد مليون لاجئ أذري هم ورقة ضغط داخلية على باكو، ينتظرون العودة إلى أراضيهم، حيث هجروا منها في حروب بدأت عام 1991.
هذا ما يفسر الصمت الروسي
تدرك كل من باكو ويريفان أن التعويل على أي موقف غربي قد يقضي على أي أمل لكل منهما في الخروج من هذا النزاع منتصراً، نظراً إلى تجارب المنطقة مع جورجيا وأوكرانيا، واليوم استمرار العمل بآلية مجموعة "مينسك"، يبدو مضيعة للوقت، فالمجموعة قادرة فحسب على تجميد النزاع من دون حله، وهي في حالة موت سريري.
نحن أمام مشهد جديد اليوم، بعد إعادة أذربيجان خمس مناطق من أصل سبع محتلة، والتقدم ما زال مستمراً، والواضح أن باكو ستستعيد كامل أراضيها المحتلة، كما أن الواضح أيضاً أن أرمينيا لم تعد قادرة على الاحتفاظ بكامل تلك الأراضي التي سيطرت عليها في حروب التسعينيات، يوم أن لعب الدعم العسكري الروسي دوراً حاسماً في انتصار أرمينيا على أذربيجان.
التغيرات السياسية التي طرأت في يريفان، خلال السنوات الأخيرة، مع وصول أشخاص يحملون أجندة غربية إلى الواجهة السياسية، عبر احتجاجات، أو ما يعرف بالثورات الملونة، ومحاولتهم تجاهل مصالح موسكو، قلبت كل الحسابات، واليوم يبدو أن لا مصلحة لروسيا بالتدخل وخسارة أذربيجان، لمصلحة حكومة أرمينية، ينظر إليها على أنها غربية الهوى، وجاءت نتيجة احتجاجات شعبية، ومعروف موقف موسكو من مظاهر هكذه.
واللافت أن موقف الإعلام الروسي، الليبرالي والحكومي، يقف بجانب أرمينيا إلى حد كبير، مقابل موقف موسكو الرسمي المحايد، بوصفها تحاول لعب دور الوسيط، ويمكن تفسير ذلك بأن الإعلام الليبرالي ينظر إلى حكومة نيكول باشنيان في أرمينيا، على أنها نتيجة ثورة شعبية، وأنها انتصار للديمقراطية، بينما يقف الإعلام الحكومي إلى جانب يريفان لأسباب أيديولوجية متعلقة بتأثير اللوبي الأرمني في موسكو.
سابقة دولية
بعد مفاوضات 28 عاماً فاشلة، بات واضحاً أن لا حل سياسياً لأزمة جنوب القوقاز، وأن الحل سيكون عسكرياً في شق كبير منه، وسياسياً دبلوماسياً في الشق المتبقي، حيث كشفت المعارك الأخيرة عن فشل الأساليب السياسة القديمة، وعندما تستعيد باكو نسبة أكبر من أراضيها، ستكون مهمة الوسطاء في هذا النزاع أسهل، مع ضمان عودة مليون لاجئ أذري إلى أراضيهم.
ستدخل حرب جنوب القوقاز التاريخ؛ إذ إنه لأول مرة تستطيع دولة على الخريطة بعد الحرب العالمية الثانية استعادة أراضيها المحتلة بعد فشل 28 عاماً من المفاوضات، وتصبح قرارات مجلس الأمن والقرارات الدولية قابلة للتنفيذ، عندما تتوفر القوة والرغبة، والثانية مرتبطة بالأولى.
ويبقى القول، إنه بعد انتهاء القتال، لا بد من اتفاق سلام حقيقي بين الشعبين الأذري والأرمني، ومن المستحيل تخيل حل لنزاع ناغورنو قره باغ من دون موسكو، حيث إن مهمة إحلال سلام دائم في المنطقة تقع في النهاية على عاتق روسيا، وفي المراحل اللاحقة على تركيا أيضاً، فالدولتان لهما تأثير كبير على أطراف النزاع باكو ويريفان، وتربطهما علاقات تاريخية بالشعبين الأذري والأرمني.