في سبتمبر (أيلول) 2007 ناقش المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية بعض القضايا المرتبطة بالإسلام السياسي في أوروبا، وطرح في ورشة عمل بالتعاون مع معهد الولايات المتحدة للسلام أسئلة عدة تتعلق بأهمية الفاعلين الإسلاميين في الانتقال السلمي للسلطة، أو الصراعات في حالات مثل السودان أو الصومال، والدروس المستفادة من ضم الإسلاميين إلى الديمقراطيات ذات الغالبية المسلمة مثل تركيا. وعلى الرغم من رصد الأوساط الأكاديمية ومؤسسات الفكر إدراج "الإسلاميين" مناهج الترويج للديمقراطية في الولايات المتحدة، فإنهم سجلوا أيضاً أنها لم تنعكس كثيراً على السياسات الأوروبية.
ولم تمض سنوات طويلة حتى اشتعلت موجة من الثورات الشعبية التي أطاحت أنظمة سياسية عدة في بلدان المنطقة العربية، ووصل الإسلاميون إلى الحكم في مصر وتونس بدعم غربي واسع لجماعات الإسلام السياسي، بخاصة جماعة الإخوان المسلمين، بينما لا يزالون يواصلون الصراع على السلطة في دول أخرى. ومنذ 2011 وحتى اليوم، تكشّف الكثير حول حقيقة الممارسة الديمقراطية لهذه الحركات، بما في ذلك تركيا التي بدأت تتحول تدريجياً إلى نظام الحزب الواحد في ظل هيمنة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، الذي يواجه انتقادات أوروبية متواصلة بسبب سياساته.
بداية الصحوة الأوروبية
في مارس (آذار) 2019، استضاف الاتحاد الأوروبي مؤتمراً بعنوان "الإسلام السياسي بين الإصلاح والراديكالية" بهدف دعوة الدول الأوروبية إلى اتخاذ قرارات عملية لاقتلاع منابع الإرهاب ومعاقبة الدول التي تدعمه وتغذي خلاياه، كما أوصى بالدعم السياسي والاقتصادي للدول المعتدلة المعروفة بجهودها في نشر قيم التعايش والتسامح، وتشجيع الحوار بين الأديان والحضارات.
وتحدثت خلال المؤتمر الناشطة في مجال حقوق الإنسان التونسية الأصل منال المسلمي عن الانتخابات التركية، التي لعب فيها الشتات التركي بأوروبا دوراً كبيراً في فوز أردوغان، على عكس المواطنين الأتراك الذين يريدون الحفاظ على العلمانية ويشعرون بخيبة أمل من "الحزب الإسلامي" الحاكم ومن أردوغان، الذي سجن كثيراً من المعارضين، بما في ذلك أكاديميون وصحافيون ومثقفون. كما أشارت إلى حزب "النهضة" التونسي الذي صوت ضد مشروع المساواة بين الجنسين، مما يدل على أنه ليس إصلاحياً، وضد المساواة بين الجنسين والأقليات والمثليين، بحسب قولها. وتطرقت إلى السياسية البارزة ورئيسة الحزب الدستوري في تونس عبير موسي، ودفاعها عن الدولة العلمانية.
وفي هذا الصدد، سلط السياسي الألماني وعضو البرلمان الأوروبي السابق يورغن كلوت، الضوء على مشكلة التمويل الخارجي للجماعات الإسلامية والمساجد في أوروبا، مشيراً إلى أن غالبية الجاليات المسلمة في ألمانيا من أصول تركية، وتمول الدولة التركية الأئمة والمساجد، وتحاول التأثير السياسي في المواطنين الألمان من ذوي الجذور التركية، وبعد محاولة الانقلاب التركية في يوليو (تموز) 2016، كانت هذه قضية مثار جدل في ألمانيا.
ماكرون يقود أوروبا
بعد أقل من عام على لقاء الاتحاد الأوروبي، وأثناء خطاب بمدينة ميلوز الشرقية في 18 فبراير (شباط) الماضي، كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن حملة حكومته ضد ما وصفه بـ "الانفصالية الإسلامية" لحركات الإسلام السياسي، التي لا تتوافق مع الحرية والمساواة، كما قال إنها "تتعارض مع الجمهورية التي لا تتجزأ، والوحدة الضرورية للأمة". ثم عاد وأكد بخطاب في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، خطة وطنية شاملة للتصدي لتلك الجماعات الانفصالية.
وأعقبت الخطاب حوادث إرهابية عدة، بدءاً بقطع رأس مدرس تاريخ على يد شاب لاجئ من الشيشان، بدعوى الدفاع عن الإسلام بعد أن عرض الأول رسوماً مسيئة للنبي محمد خلال درس عن حرية التعبير، ثم قتل ثلاثة مواطنين فرنسيين بكنيسة في نيس، بينهم امرأة تم قطع رأسها. وتبعت ذلك حملة اعتقالات طالت عشرات الأشخاص من تيار الإسلام السياسي، وعمليات دهم لجمعيات تابعة لتلك الحركات، فضلاً عن حل جمعيتي "أحمد ياسين" الإخوانية، و"الذئاب الرمادية" القومية التركية، التي وصفها وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، بأنها "تحرض على التمييز والكراهية ومتورطة في أعمال عنف"، حين قامت بتظاهرات مسلحة ضد الأرمن في مدينة ديغون الفرنسية.
وبعد أيام قليلة، شهدت فيينا أول هجوم إرهابي كبير على الأراضي النمساوية منذ العام 1985، تبنى تنظيم داعش تنفيذه، وأودى بحياة أربعة أشخاص وإصابة أكثر من 15، وقتلت الشرطة المهاجم كوغتيم فيض الله (20 سنة)، بعد إطلاقه النار على المارة والحانات.
وبعد الهجوم، أكد مستشار النمسا سيباستيان كورتس عزمه محاربة "الإسلام السياسي"، معتبراً أنه "عقيدة تشكل خطراً على النموذج الأوروبي للحياة". وبعد أربعة أيام من الهجوم أمرت الحكومة النمساوية بإغلاق المساجد المتطرفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت الهيئة الدينية الإسلامية في النمسا، أكبر منظمة تمثل المسلمين وتدير 360 مسجداً هناك، في بيان، أنها أغلقت مكاناً للعبادة يخالف عقيدتها. وقال رئيسها أوميت فورال، إن "الحرية رصيد ثمين في بلدنا، ويجب علينا حمايته من الانتهاكات، خصوصاً عندما تخرج من صفوفنا".
وفي تضامنها مع النمسا ومن قبلها فرنسا، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، المعروفة بسياستها المعتدلة والداعمة للاجئين، "نحن الألمان نتعاطف مع أصدقائنا النمساويين ونتضامن معهم. مكافحة التيارات المتطرفة هو كفاحنا المشترك".
توصيف المسلمين
على الرغم من اختلاف البعض بين وصف "الإسلامي" أو "الإسلاموي" في الترجمة العربية لكلمات القادة الأوروبيين حول حركات الإسلام السياسي، غير أن هناك أموراً جديرة بالملاحظة، ومنها ترديد أولئك القادة للمصطلحات ذاتها التي استخدمها الرئيس الفرنسي، كما أبدى القادة الأوروبيون حذراً لافتاً في التفريق بين المواطنين المسلمين في أوروبا، وجماعات الإسلام السياسي التي تسعى لفرض الانعزال على المسلمين في الدول الغربية، وبث خطاب متطرف من خلال المدراس والمساجد المستقلة التي يتم تمويلها من الخارج.
فالرئيس الفرنسي شدد على التمييز بين غالبية المسلمين الفرنسيين الذين يعيشون بسلام، وبين الأقلية المتطرفة التي تشكل تهديداً. وفي حين ينتمي مستشار النمسا للتيار المحافظ، غير أنه في كلمته تعمّد ألا يقع المسلمون ضحية لأفعال بعض المتطرفين من خلال وصمهم بالإرهاب، إذ قال عبر تغريدة في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، "يجب أن ندرك دائماً أن هذا ليس خلافاً بين المسيحيين والمسلمين أو بين النمساويين والمهاجرين. هذا صراع بين العديد من الناس الذين يؤمنون بالسلام، والقلة الذين يريدون الحرب".
نهاية التسامح الخاطئ
ويبدو أن أوروبا باتت أكثر يقظة لخطر جماعات الإسلام السياسي لديها، فعلى الرغم من أن المخاوف الأوروبية ليست جديدة، لكن الملاحظ أنه لم يعد التعبير عنها بشكل حصري من قبل أولئك الذين ينتمون إلى اليمين من الطيف السياسي، ولكن من قبل السياسيين والمعلقين من جميع المذاهب السياسية وأجهزة الأمن، وهو ما ينبئ باستراتيجية أوروبية موحدة.
وبالفعل حثّ المستشار النمساوي القادة الأوروبيين على تشكيل جبهة مشتركة ضد "الإسلام السياسي". وقال كورتس لصحيفة دي فيلت الألمانية الأسبوع الماضي، "أتوقع نهاية للتسامح الخاطئ، وأن تدرك جميع دول أوروبا أخيراً مدى خطورة أيديولوجية الإسلام السياسي على حريتنا وأسلوب الحياة الأوروبي". وأضاف، "على الاتحاد الأوروبي أن يركز بقوة أكبر على مشكلة الإسلام السياسي في المستقبل".
جبهة موحدة
فكرة تشكيل جبهة أوروبية مشتركة ضد الإسلام السياسي التي طرحها الرئيس الفرنسي أولاً، بات يتبناها قادة أوروبيون آخرون، بما فيهم وزير الخارجية الإيطالي الذي قال إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتبنى نسخة من "قانون باتريوت" الأميركي، الذي يمنح سلطات أمنية أكبر لمراقبة المشتبه فيهم.
وقال كورتس إنه سيضع قضية الإسلام السياسي على جدول أعمال قمة الاتحاد الأوروبي المقررة في وقت لاحق هذا الشهر، مشيراً إلى أنه تحدث مع "ماكرون وعدد من قادة الحكومات الآخرين، حتى نتمكن من التنسيق بشكل أوثق داخل الاتحاد الأوروبي".
ويصف مدير برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن ومؤلف كتاب "الدائرة المغلقة: الانضمام وترك جماعة الإخوان المسلمين في الغرب"، لورينزو فيدينو، هذه الدعوات بأنها "تيقظ القادة المعتدلين تجاه التهديد الذي يشكله تيار الإسلام السياسي".
وأشار فيدينو خلال مقالة كتبها لمجلة فورين بوليسي، إلى تقرير صدر العام 2018 عن أجهزة الأمن في ولاية شمال الراين وستفاليا بألمانيا، يشير إلى أنه "على المدى الطويل، فإن التهديد الذي تشكله الإسلاموية الشرعية أو حركات الإسلام السياسي تجاه النظام الديمقراطي الليبرالي أكبر من التهديد المتطرف. إنهم يطمحون إلى نظام إسلامي، لكنهم مستعدون للسماح بعناصر ديمقراطية معينة ضمن هذا الإطار، ولهذا السبب بالكاد يمكن التعرف على تطرفهم للوهلة الأولى".
العمى الأميركي
وتناولت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تحركات ماكرون في إطار قمع للمسلمين، وهو ما أغضب مجموعة من المراقبين الفرنسيين. وندد مقال في صحيفة لوموند الفرنسية بـ "العمى الأميركي المقلق عندما يتعلق الأمر بالإرهاب في فرنسا". وكثيراً ما تم تحليل إجراءات ماكرون من منظور السياسة الانتخابية المحلية على أنها محاولة لاستمالة اليمين المتطرف، لكن مدير مبادرة مستقبل أوروبا في المجلس الأطلنطي في واشنطن بنجامين حداد، يقول "إن هذا التحليل يمثل سوء فهم صارخ للواقع السياسي الفرنسي".
ويشير إلى أن استطلاعاً للرأي أجري أخيراً في شأن الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة عام 2022، أظهر وضعاً مشابهاً للوضع الذي ساد عام 2017، عندما هزم ماكرون منافسته اليمينية مارين لوبان في الجولة الثانية. ففي الاستطلاع الذي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام الشهر الماضي، أظهر أن الغالبية العظمى من المواطنين الفرنسيين يشعرون بقلق عميق إزاء الوضع. واعتبر 89 في المئة منهم أن التهديد الإرهابي "مرتفع"، و87 في المئة رأوا أن "العلمانية في خطر"، فيما أكد 79 في المئة أن "الإسلام السياسي أعلن الحرب على الأمة والجمهورية".
ويؤكد حداد أن التحدي المجتمعي الأعمق يتعلق بالتأثير المتزايد للجماعات المتطرفة في أحياء معينة موجودة خارج نطاق الدولة، وهي مجتمع مضاد يعمل على مناهضة النساء واليهود والمثليين وغيرهم. ويلفت إلى تقارير عدة حول سنوات من الضغط المتزايد على المعلمين الذين يحاولون تدريس الهولوكوست أو التربية الجنسية أو حتى علم الأحياء الأساس.
وفي الآونة الأخيرة، نشرت مجموعة من علماء جامعة السوربون المرموقة بقيادة برنارد روجير سلسلة من الدراسات التجريبية بعنوان: "الأراضي التي غزاها المتطرفون"، محذرة من أن "الشبكات المتطرفة تمكنت من بناء جيوب في قلب الأحياء الشعبية". وبينما يمثل اليهود واحداً في المئة فقط من سكان فرنسا، لكنهم مستهدفون بشكل غير متناسب بجرائم الكراهية، مما اضطرهم إلى هجر هذه المناطق بأعداد كبيرة خلال العقد الماضي.