"بامعك"، و"مالك كذا ياهلي"، و"أهلاً بمن سلم"، و"أنا من ناظري عليك أغار"، "يابن الناس حبيتك"، و"على مسيري..." أغانٍ يرددها اليمنيون منذ سنوات طوال لعملاق الغناء اليمني الراحل محمد مرشد ناجي (المرشدي)، الذي يصادف هذا الأسبوع ذكرى ميلاده الـ91.
هو مطرب وملحن، ولد في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1929، ويعد واحداً من أبرز مجددي الأغنية اليمنية. امتدت تجربته الفنية سنوات طويلة أسهم خلالها في إثرائها وتطويرها، وإحياء ونشر التراث الغنائي الغزير والمتنوع على مستوى اليمن والجزيرة العربية.
وكانت الساحة الفنية العدنية في فترتي الخمسينيات والستينيات زاخرة بالعطاء الإبداعي المتميز، ولعبت "إذاعة عدن" الدور البارز في نشر إبداعات مشاهير الغناء اليمني، وفي مقدمتهم المرشدي، الذي أجاد معظم ألوان الغناء اليمني بمختلف مناطقه، وهي اللحجي، واليافعي، والحضرمي، والعدني، والصنعاني.
أسرة فنية
ولد المرشدي في مدينة الشيخ عثمان من مدن عدن، وبحسب ما ذكر في كتابه "صفحات من الذكريات"، فإن معرفته بالغناء بدأت من البيت، فقد كان والده يتمتع بصوت جميل، ولا يمر يوم من دون أن يغني مهاجل القرية، وغناءها الشعبي، وكان أخوه أحمد مولعاً بالعزف على آلة السمسمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتشرت النوادي والمنتديات الثقافية والنوادي الرياضية في مدينة الشيخ عثمان، وكانت عدن قد عرفت ندوة الموسيقى العدنية التي أسسها الفنان الراحل خليل محمد خليل، وكذلك الرابطة الموسيقية التي أسسها الشاعر الراحل محمد عبده غانم، وجمعية مؤلفي الأغاني، ناهيك بالصحافة والجمعيات والنقابات، وفي هذا المناخ والبيئة الثقافية الثرية انضم المرشدي إلى ندوة الموسيقى العدنية عام 1951، بواسطة صديقه وجاره النقابي والشاعر الراحل إدريس أحمد حنبلة.
ترابط وجداني
يرى الباحث الفني يحيى قاسم سهل أن هناك "ترابطاً وجدانياً بين مدينة الشيخ عثمان وابنها المرشدي، الأمر الذي شجعه على الخوض في ميدان الأغنية الوطنية". يضيف "وصفت مدينة الشيخ عثمان بـ(مدينة القرى وقرية المدن)؛ ففيها عاش كل أبناء اليمن، سواء أبناء المحميات، أو أبناء المملكة المتوكلية اليمنية قبل الاستقلال، بدليل أسماء الحارات، مثل حارة البدو، وحارة القريشة، وحارة دبع، وكود بيحان، وأسماء الأعيان بيت الأصنج – والمقطري. وفي هذه الأجواء ولد المرشدي، وتعلم في مدارس بها طلاب من جميع أنحاء اليمن، لذلك أجاد اللهجات اليمنية، وساعده ذلك في غناء الألحان الغنائية المختلفة، إلا أن الأهم من ذلك تمثل في الدفع به ليكون أحد أبرز من قدموا الأغنية الوطنية، التي كانت بمثابة أيقونة للفداء والتضحية وملهمة للثورة اليمنية في سبتمبر (أيلول) 1962 ضد الحكم الإمامي شمال اليمن، وأكتوبر (تشرين الأول) 1963 ضد الاحتلال البريطاني جنوباً".
يتابع "يكاد يجمع الباحثون في المشهد الغنائي باليمن على أن الأغنية الوطنية كانت بمثابة الوقود للثورة قبل مرحلة الكفاح المسلح جنوب البلاد، ومن روادها محمد مرشد ناجي، الذي حاز قصب السبق فيها، وبرزت أول أغنية وطنية لعبت دوراً بارزاً في حياة الشعب اليمني، وقام بتلحينها وأدائها المرشدي عام 1954، وجاء في مطلعها (أخي كبلوني وغل لساني واتهموني، بأني تعاليت في عفتي ووزعت روحي)".
ويوضح سهل أن "أغنية (أنا الشعب) تعد أحد أبرز أعماله التي لا تزال عالقة في الذاكرة الشعبية إلى جانب (الطير الرمادي، وشعبي ثار اليوم، وهوات يدك)، كما أن أغانيه الوطنية لم تتوقف عند مرحلة ما قبل الثورة، بل استمرت بعد الاستقلال بعدد من الأغاني، أهمها أغنيتا (نشوان)، و(مخلف صعيب)".
الأغنية العاطفية
إذا كان المرشدي أحد رواد الأغنية الوطنية في اليمن، بحسب سهل، فإن أغانيه العاطفية، أبرزها أغنية "وقفة" من كلمات الشاعر محمد سعيد جرادة، وهي أول ألحانه، وحقاً كان فيها فارساً، سواء في اللحن أو الأداء، ولا يختلف اثنان على ذلك، ومثلت هذه الأغنية ميلاد المرشدي الملحن الفنان، ومطلعها "هي وقفة لي، لست أنسى ذكرها، أنا والحبيب"، ولحنها عام 1951. ثم توالت الأغاني العاطفية التي يصعب حصرها، التي كان متميزاً متفرداً فيها، وله بصمته الخاصة، حتى في أغنية "مش مصدق" من كلمات الشاعر الراحل لطفي أمان، التي غناها أيضاً الفنان الراحل أحمد قاسم، أو أغنية "أراك طروباً"، و"يا عاشقين"، و"على أمسيري". والخلاصة كان المرشدي فناناً حقيقياً، سواء في أغانيه الوطنية أو العاطفية، لأنه كان يسقي الأغنية من روحه ودمه، فكانت لها خصوصيتها، ولم يستطع أحد تقليده.
مجدد الأغنية اليمنية
يجمع نقاد الفن والأغنية اليمنية على أن المرشدي من أهم دعائم وركائز "الغناء التجديدي الحديث"، بالإضافة لدوره البارز والمهم والمؤثر بتقديم الموروث والفلكلور الغنائي اليمني بكل ألوانه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة، بأسلوب رائع أخاذ، ومقدرة فائقة أعادت إليه الروح والحياة بعد حالة الإهمال والنسيان، وتمكن ببراعة من تقديم عطاءات ونتاجات إبداعية استندت إلى محاكاة التراث اليمني برؤيته المستقلة وبمنظوره ومنهاجه ومدرسته المتميزة، معتمداً في ذلك على جمال وعذوبة ورقة "صوته الذهبي" وسلاسة وسلامة مخارج الألفاظ والقدرة الهائلة على التغيير والتنويع، بخلق جمل موسيقية ومقامات لحنية وإيقاعات يمنية مصحوبة بثراء في العاطفة والشجن المتدفق المرتبط بجذور وأصول التربة اليمنية.
الانتشار الفني
عن انتشار أغاني المرشدي خارج الحدود اليمنية، يقول الباحث سهل "بدأت الأغنية اليمنية في الانتشار منذ التسجيل على الأسطوانات في عدن من قبل شركة (أودين) عام 1938، وانتشرت بعد ذلك عبر الأثير عند تأسيس (إذاعة عدن). أما عن المرشدي فانتشرت أغانيه عبر أشرطة التسجيل والتلفزيون، وكذلك رحلاته للقاهرة والتسجيل فيها عدداً من الأغاني، أو في جيبوتي، ثم مؤخراً دول الخليج، ولقيت حضوراً وقبولاً منقطع النظير، كون عرب الحجاز لا يزالون يعترفون بأن موسيقى اليمن من أفضل الموسيقى العربية وأقربها إلى طبع العرب، كما ذكر هنري جورج فارمر في كتابه المشهور".
مكانة استثنائية
المكانة الكبيرة والمتميزة للمرشدي جعلته في مصاف عمالقة الفن والثقافة والأدب في اليمن، ومكنته من أن يشغل عدة مواقع ومهام في الدولة، منها عضوية البرلمان طوال فترة ثمانينيات القرن الماضي، ورئاسة اتحاد الفنانين، ثم عين مستشاراً لوزير الثقافة، واستمر الفنان مثابراً على الأداء المتميز في الساحة الفنية على مدى ستة قرون متواصلة، ليسجل اسمه في قائمة الإبداع والفن كفنان عملاق ومثقف وأديب مميز، قدم كل ما لديه من إبداع للوطن والفن، حتى توفي في 7 فبراير (شباط) 2013، بعد تدهور حالته الصحية نتيجة مشكلات في القلب، فرحل تاركاً إرثاً فنياً خصباً ومدرسة فنية متميزة.