يعتقد الإيرانيون أنهم يخسرون أرضاً جديدة في العراق كل يوم.
فيما تتداعى التحصينات التي شيدها الجنرال الأبرز في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، طيلة أعوام، بين بغداد والرياض، تجد طهران نفسها مضطرة إلى تقبل حقيقة أن عليها تقاسم علاقتها بأحد أهم شركائها في المنطقة مع لاعبين آخرين.
الرد السعودي على المقاربة الإيرانية
بدا واضحاً أن السعودية قررت تجاوز جميع الموانع التي تعرقل بناء علاقات وثيقة مع العراق، حتى إذا ما كان الأمر يتعلق بمؤثرات إقليمية، وحسابات طائفية معقدة.
بدلاً من سياسة المناكفة الإعلامية مع إيران، وتبادل أدوار التصعيد عبر منصات موجهة، قررت السعودية أن تعمل في العراق عن كثب، وتتصل بالناس، وهو ما يلقى ترحيباً شعبياً، يزيد من الضغط على إيران.
اعتمدت المقاربة الإيرانية طيلة أعوام على فكرة أن العراقيين الشيعة يكرهون السعودية السنية، وهو ما كان يجري تلقيه بارتباك في الرياض، التي لم تبذل في ما مضى، من وجهة نظر كثير من الساسة العراقيين، ما يكفي لاكتشاف الحقيقة على الأرض.
الأعرجي والشمري يداً بيد
كان لافتاً ظهور وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي، وهو يضع يده بيد السفير السعودي في العراق عبدالعزيز الشمري، ليتجولا في بعض أسواق بغداد، إذ إن الوزير هو أحد القادة الرئيسين في منظمة بدر، التي أسستها إيران خلال حرب الثمانينيات لمساعدتها في قتال الجيش العراقي. لكن رجال بدر الشيعة كانوا رأس الحربة في مشروع التطبيع بين العراق والسعودية، بالرغم من صلاتهم الوثيقة مع إيران.
كان الأعرجي، وهو وزير الداخلية في العراق بين 2016 و2018، أحد أهم المتحمسين لتطوير العلاقات العراقية السعودية بسرعة، وهو من بين القلائل من صقور اليمين الشيعي كان يمكنه التنقل برشاقة بين طهران والرياض، انطلاقاً من بغداد.
لعب الأعرجي دوراً كبيراً في إقناع أوساط سياسية شيعية مؤثرة بضرورة الاستفادة من الثقل السعودي، منطلقاً من فكرة أن النفوذ الإيراني في العراق إلى زوال، بعدما تسرّب أنه قاد وساطة لتهدئة التوترات بين طهران والرياض، لكنها لم تسفر عن نتائج.
شراكات في الفضاء الشيعي
منذ 2004 كانت السعودية تفضل العمل مع ساسة عراقيين من الطائفة السنية، أو ساسة شيعة علمانيين يعارضون النظام السياسي الذي أقرته الأحزاب الإسلامية الشيعية بعد الإطاحة بصدام حسين.
في الحقيقة، لم تنجح هذه المساعي كثيراً، وبقي الساسة السنة منقسمين وضعفاء، فيما فشل الليبراليون الشيعة في لعب دور مؤثر في الساحة السياسية العراقية.
لكن السياسة السعودية الجديدة وحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ترافقا مع موجة جديدة في المنطقة، تتسم بالجرأة.
تخلّت الرياض عن دعمها مشاريع سياسية سنية، وقررت أن تبني شراكات في الفضاء الشيعي، حيث اتسمت حقبة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بانفتاح كل من البلدين على الآخر، وتبادل الزيارات على أرفع المستويات، وهي السياسة التي عزّزها الطرفان عندما بدأ رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ولايته العام الماضي.
الصدر والسيستاني
كوّنت الرياض علاقات وثيقة مع أحد أبرز الزعماء الشيعة، وهو مقتدى الصدر، الذي أسهم في نقل الانفتاح السعودي من بغداد إلى النجف، العاصمة الدينية لشيعة العراق وجزء كبير من شيعة العالم، حيث مقر المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، وقبر الإمام علي بن أبي طالب.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أعلن محافظ النجف لؤي الياسري، عن موافقة السلطات السعودية على توجه مواطنيها الشيعة من مطارات السعودية مباشرة إلى النجف للمشاركة في أداء مراسم زيارة مرقد الإمام علي في المدينة.
جاء هذا الإعلان بعد يوم واحد من إعلان الرياض استئناف الرحلات الجوية إلى مطار بغداد، بعد توقف دام نحو 27 عاماً.
أرض في النجف
كانت الأرض التي تكسبها السعودية في النجف، شديدة الأهمية. ما دفع حلفاء إيران إلى طرح أسئلة في شأن موقف السيستاني من هذه التطورات. لكن السيستاني حافظ على لغة هادئة، تكرر التشديد على ضرورة أن تكون للعراق علاقات متوازنة بجيرانه.
كان تطور علاقة الصدر بالرياض، وهدوء السيستاني، مؤشرين كبيرين لإمكان تعزيز الانفتاح بين السعودية والعراق، فالحكومة في بغداد صار لديها حلفاء في النجف، يؤيدون موازنة النفوذ الإيراني الكبير بشراكة وثيقة مع السعودية.
وفد سعودي تاريخي في بغداد
مساء الأربعاء الماضي، حطّت في مطار بغداد طائرة تقلّ نحو 90 مسؤولاً سعودياً، يشكّلون أكبر وفد ترسله الرياض إلى العراق في تاريخ العلاقات المشتركة.
مثَّل هذا التطور، ضربة مؤلمة للنفوذ الإيراني في العراق، إذ كانت مشاهد الحفاوة بالضيوف دليلاً على استعداد بغداد لنقل علاقتها بالرياض إلى مدى أبعد، يتجاوز خطورة الحسابات الإقليمية والطائفية.
ماذا ستفعل إيران؟
يعتقد كثيرون في بغداد أن إيران لن تواصل الفرجة كثيراً على النفوذ السعودي وهو يتمدّد في العراق. والحقيقة أن المنادين العراقيين، من حلفاء إيران، بضرورة الحذر من هذا الانفتاح السعودي لم يتردّدوا كثيراً في التصريح بمخاوفهم، لكن الأوان فات على ما يبدو لاحتواء الأمر، فأصوات المرحبين بهذا الانفتاح باتت أعلى.
خلال استقباله الوفد السعودي برئاسة وزير التجارة والاستثمار ماجد القصبي، في قصر السلام ببغداد، قال الرئيس العراقي برهم صالح، إن "العلاقة الأخوية التي تربط العراق بالمملكة العربية السعودية لها جذور تاريخية وتنمو وتتعزّز باضطراد بما ينسجم وتطلعات قادة البلدين الشقيقين وشعبيهما".
لا يقف الترحيب العراقي بالعلاقات مع السعودية عند السياسيين، إذ تعجّ مواقع التواصل الاجتماعي في العراق بنقاشات واسعة، يشجّع معظمها هذا التقارب، داعياً إلى الاستفادة من الثقل السعودي في المنطقة والعالم.