أكثر ما يشغل ذهن الزائر في مدينة هرر الإثيوبية التاريخية هو التحقق من رواية "الضباع المسالمة" القاطنة في الوديان والأحراش المحيطة بالمدينة، وإطعامها بيده، وهو ما يتيحه أهل المدينة لكل زوارهم. اشتهرت "هرر" بهذه الظاهرة، وما من زائر إلا وجازف مع تلك الضباع، فعلى الرغم من أنها ضباع جائعة ومتجمعة، فإن الزائرين يحضرون رفقة خبير محلي ليطعموها اللحوم من أيديهم.
مدينة الأولياء
تقع مدينة هرر في شرق إثيوبيا، على بعد 360 كيلومتراً جنوب غربي بربرا في واحة جبلية خضراء، على الطريق المؤدية إلى الإقليم الصومالي، وهو ذات الاتجاه إلى الصومالاند وجيبوتي. وتعد المدينة عاصمة إقليم هرر المكون من المدينة الأم وعدد من القرى المنتشرة حولها. وتقع المدينة على تل بارتفاع 1885 متراً، ويعتبر جزءاً من الهضبة الإثيوبية. وتبعد عن العاصمة أديس أبابا بنحو 500 كيلومتر. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء، قدر إجمالي عدد سكانها في عام 2005، بما يزيد على 122.000 نسمة، وفي عام 2012 قدر عدد السكان بـ210.000 نسمة، من جملة تعداد سكان إثيوبيا البالغ 102 مليون نسمة.
البن الهرري
وتشتهر المدينة بـ"البن الهرري" وهو أغلى أنواع البن يصدره التجار إلى بلدان عدة مثل "السعودية، وتركيا، وأميركا، وغيرها"، بعد تنظيفه وتعبئته كسلعة إستراتيجية تمثل دعامةً للاقتصاد الإثيوبي.
وتتميز هرر بمناخ معتدل ويكسوها غطاء نباتي وأشجار وزهور بألوان متباينة عبر مرتفعات ومنخفضات.
ويتشكل سكانها حالياً من قبائل "هررغى" (7.1 في المئة)، والـ"أورمو" (45 في المئة)، و"أمهرة" (27 في المئة). وتعد قبيلة "هررغى" من القبائل العربية، وهي صاحبة الإقليم (رغم قلة عددها)، وذلك بحكم تاريخ طويل من الهجرات العربية إلى الإقليم واختلاط النسل العربي بالسكان الحقيقيين للإقليم (الهررغي).
منارة القرن العاشر
ويعود تاريخ المدينة إلى القرن العاشر الميلادي، حين اشتهرت كقبلة للعلماء المسلمين. دخلتها موجات من الهجرة العربية من العلماء والتلامذة، وأطلق عليها ألقاب مثل "مدينة الصالحين"، و"مدينة الأولياء"، وظلت واحدة من أهم منارات العلم ضمن المدن الإسلامية المعروفة كـ"المدينة المنورة، وبغداد، ودمشق"، خلال قرون ماضية.
وشكلت هرر مركزاً تجارياً يربط بين الطرق المقبلة من البحر الأحمر عبر الصومال (صومالاند) وبربرة، مع بقية المدن والبقاع الإثيوبية، ومثلت ضمن فترات التاريخ نقطةً مهمة في منطقة القرن الأفريقي.
يوثق تاريخ القرن الأفريقي المنطقة منذ امتداد بعيد من الزمان، كمركز تعايش لشعوب عدة بحكم الممرات المائية والمواقع المتشاطئة. كما عرفت منطقة القرن الأفريقي منذ القدم بتداخلها الجغرافي الذي يتمثل في محاذاة مياه عدن والبحر الأحمر، وهي رقعة جامعة لأهم دول المنطقة، إذ تضم "الصومال، وجيبوتي و"إثيوبيا الكبيرة" (إثيوبيا وإريتريا)، والسودان"، ومن الجهة المقابلة "اليمن، والجزيرة العربية"، حيث شكلت نقطة تفاعلات تاريخية منذ زمان بعيد، فكانت محط ممالك وحضارات وتعايش وتفاعل بين ثقافات متنوعة، إلى جانب صراع شبه متواصل في ظل التنافس السياسي والديني. وظلت هرر ضمن ذلك الواقع، منارةً للعلم وملتقىً للتجار والزائرين بعلمائها وآثارها، إلى حين ضُمت إلى الإمبراطورية الحبشية إبان عهد الإمبراطور منليك الثاني عام 1887.
مدينة أبادر
في القرن الثامن عشر، أرسل إليها الخديوي إسماعيل حملةً مصرية استولت عليها عام 1875، وكانت تعرف حينها بمدينة أبادر، (نسبة لشيخ لا يزال قبره مزاراً لأهل المدينة) وهي أقدم مدن الشرق الأفريقي. وانتعشت المدينة خلال الحكم المصري القصير في النواحي الاقتصادية والعلمية. وكانت تعاصرها من المدن الإسلامية "زيلع، وبربرا، وسواكن". وبنى فيها الخديوي إسماعيل مسجداً ضخماً تحول إلى كنيسة كبيرة، خلال فترة الانهيار الذي شهدته في عهد الإمبراطور هيلا سلاسي، الذي نصب نفسه حاكماً عليها عام 1910 خلفاً لأبيه، قبل أن يصبح ملكاً على الحبشة كلها في عام 1928. وكان يزورها ويقضي بها إجازاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان دخول هرر في إحدى المراحل محرماً على غير المسلمين، إلا أن المستكشف البريطاني ريتشارد بورتن دخلها عام 1854 متنكراً في جلباب إسلامي، ووثق أحوالها آنذاك، وكان الأوروبي الوحيد الذي تمكن من زيارتها والعودة منها سالماً. وروى في كتابه الذي حرره عنها، وحمل عنوان "اكتشاف هرر، الخطوات الأولى في شرق أفريقيا"، تجربته خلال فترة ما بعد عام 1855، وأنه تنكر منتحلاً اسم "الشيخ عبد الله". ومهدت دراسة المستشرق برتون للحملات الاستعمارية لاحقاً على هرر، إذ قدمت وصفاً لمواقع المدينة وطرقها وسكانها وأهميتها، وتحدثت عن كثرة مساجدها ومكانتها العلمية.
وشهدت فترات ازدهار هرر التاريخية هجرات منظمة من العرب الوافدين عبر البحر الأحمر من الجزيرة العربية، ليختلط أهلها بأنساب عربية. ويقول مؤرخون إن "في هرر علويون وأشراف من أهل البيت. كما تحتفظ حالياً بأصولها المتقدمة بعائلات ذات جذور عربية سعودية، وحضرمية، وبقايا من الأتراك، والمصريين، والصوماليين والسودانيين". ويقال إن قبائل الشيباني العربية شكلت جزءاً من الوفادة العربية إلى هرر. ومن أسماء الشخصيات الشهيرة، المعروفة هناك علي حمدون، وهاشم بن العبد العزيز، وزعيم الأحباش في لبنان عبد الله بن وليد الشيبي الهرري الذي أسس "جماعة الهرريين" في لبنان وهرر، وانضم إلى جماعته كثر ينتشرون حالياً في مختلف بقاع العالم. ومن الأسماء العربية والتركية والمصرية لا يزال المئات من أبناء المدينة يحملون أسماء مثل "صلاح الدين، والباشا، وجمال الدين، ومراد، ومهدي".
سور جقال
من جهة أخرى، كان يحيط المدينة القديمة سور يمتد مغطياً جهاتها الأربع بطول 3348 كيلومتراً، وارتفاع 4 أمتار، وعلى مساحة تبلغ 48 هكتاراً. ويرجع تاريخ السور إلى القرن الثالث عشر ميلادي، وتتحدث الروايات عن اكتماله في عهد الأمير نوري (1559-1567). وللسور خمسة أبواب بمسميات عربية هي "باب النصر"، و"باب السلام"، و"باب بدر"، و"باب الرحمة"، و"باب البحر الأحمر". ويربط أهل هرر الأبواب الخمس برمزية دالة على الصلوات الخمس المفروضة على المسلم. ويطلقون على السور اسم "جقال". أما أبوابه فلا تزال باقية وآثارها واضحة المعالم، بينما تآكل بقية الأجزاء بفعل الزمان، ولم يبق منه إلا أطلال. وتحفظ تربة المدينة قبور العديد من العلماء المسلمين. ويقول مؤرخون إن "جدار المدينة الذي أسهم في بنائه عدد من السلاطين كان آخرهم الأمير نوري، حافظ على هوية المدينة وتقاليد أهلها المسلمين".
وأدرجت منظمة اليونسكو مدينة هرر القديمة على قائمة التراث العالمي عام 2006. ووفقاً لليونسكو، فإن هرر تعتبر "رابع مدينة مقدسة بالنسبة إلى الإسلام بعد مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس. ويعود ذلك، إلى وجود 82 مسجداً تاريخياً فيها، ثلاثة منها تعود إلى القرن العاشر، إضافة إلى 102 من أضرحة العلماء". ويزعم أهل المدينة أن ضريح الشيخ عبدالقادر الجيلاني أحدها.
وفي ضريح الشيخ أبادر الذي يتوسط المدينة قبة ومزار، يتمتع بإشراف محبيه الذين يحفظون ويعلمون الأطفال والدارسين القرآن والحديث. وتضم المدينة القديمة كذلك متحفاً يعرض تاريخاً حافلاً عبر أدوات ومخطوطات ونسخ من القرآن الكريم تعود إلى تاريخ قديم، لا يزال أهل هرر يحتفظون بها ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
هرر الوجه الآخر "المغامرة"
على صعيد آخر، وفي حضور "وسيط الضباع" الذي تعرفه وتطمئن إليه كي لا تتعرض لغدر الإنسان أو أسر لحريتها، بدأت المرحلة الثانية في التعرف على هرر بما تحويه من غرابة. توقيت اللقاء الميمون بالضباع محدد عند مغيب الشمس، وفق الدليل، فعندما يرخي الليل سدوله ينادي "صديق الضباع" الضيف للذهاب. ويطمئن الضيف أيضاً لمرافقه ويستعين به في تصوير مغامرة واقعة إطعام الضبع. ويذهب الرجلان إلى موقع متعارف عليه، على بعد مئات الأمتار خارج سور المدينة العتيقة. وعند الوصول يطلق "صديق الضباع" صفيراً ونداءً تعرفه الضباع، وسرعان ما تتراءى من بعيد خيالات حيوانات تسابقها ظلالها، ويشع من عيونها بريق يضيء طريقها إلى موقع الصفير. ويخفق قلب الضيف خفقتين، لكن "صديق الضباع" بخبرته الطويلة يدرك الشعور فيخفف من روع ضيفه بنصائح مطمئنة. فما إن تمر بضع دقائق حتى يحدث اللقاء، فينادي المروض الضباع بأسمائها "نورية، وكمروا، وهدية".
وعلى عود متوسط الطول يعلق الخبير اللحوم ويمده إلى الضيف الذي يمده بدوره بيد ثابتة أو مرتجفة، إلى الضباع التي تأكل سعيدةً فيسعد الضيف بمغامرته ويزيد اللحوم على العود، بعد أن زالت عنه الهواجس.
وبعد هذه المغامرة يكون قد تمت فعلاً زيارة "مدينة هرر" بتبايناتها خضرةً، وجمالاً وبناءً هررياً، ومآذن، وتشكيلات سكان ذوي أصول عربية، وغرابة ضباع وتاريخاً وحضارة قديمة ترجع إلى عشرة قرون خلت.