يباغت المفكر والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو قارئه، في الكتاب الجديد "في جو من الندم الفكري" الصادر حديثاً ضمن منشورات المتوسط، بالسؤال الآتي: "ما الفائدة من قراءة القدماء؟ إنهم ليسوا من عالمنا. ينامون بسلام ولا يريدون منا أن نوقظهم. لندع الموتى يدفنون الموتى". يبدو هذا التساؤل مثار دهشة لقراء كيليطو، هذا "النباش" الكبير في التراث العربي والعالمي. وستزيد الدهشة حين يعترف بأنه لم يقرأ "الإلياذة"، متسائلاً في الآن ذاته عمن يقرأ دون كيشوت اليوم.
في سياق سابق كان كيليطو قد اعترف بأنه ليس قارئاً جيداً. وكان يقصد بالطبع الكم، لا الكيف. لا يمكن أن يحمل هذا التصريح على محمل التواضع فحسب، بل إن الرجل معروف عنه قراءاته النوعية المبنية على اختيارات يحكمها المزاج في الغالب. إنه "قارئ عمودي" إذا جاز هذا التعبير وإذا جاز أن نضع في مقابله "القارئ الأفقي" الذي يتصف بوساعة أو وفرة مقرواءته. يقرأ كيليطو كتباً قليلة قياساً مع القراء الكبار، لكنه يقرأ هذه الأعمال وفي يده مكبرات وأزاميل ومجاهر وآليات حفر وتنقيب، كأنما يريد أن يرى في النص ما لم يره غيره من قبل.
لا يتوقف كيليطو عن اعترافاته بمحدودية مقرواءته، بل إنه يسمي نفسه "أديباً ناقصاً"، لأنه لم يطلع على ثلاثة من الكتب الأربعة التي وصفها ابن خلدون ب"أصول الأدب العربي القديم": "أدب الكتاب" لابن قتيبة، "الكامل" لابن المبرد، "النوادر" لأبي العالي القالي، و"البيان والتبيين" للجاحظ، وهو الكتاب الوحيد الذي اكتفى بقراءته ضمن مصنفات ابن خلدون.
يختفي صاحب "الأدب والغرابة" وراء تعريف طريف لإيتالو كالفينو يضع قراءتنا للأدب الكلاسيكي في منطقة الحرج. يقول كالفينو: "إن الكتاب الكلاسيكي هو الذي يعلن القارئ أنه يعيد قراءته، ولا يقول أبداً إنه يقرؤه". غير أن كيليطو يشير إلى الأدب الكلاسيكي الذي قرأه والذي لم يقرأه أيضاً، موجهاً كعادته كثيراً من الأسئلة وقالباً المفاهيم، محاولاً إثارة القارئ ودفعه إلى أن يتعامل مع النصوص بمعيار دائم هو معيار المساءلة وعدم الركون لأي معرفة جاهزة.
الوفاء للأدب العربي
يطرح كيليطو من جديد إشكالية التعدد اللغوي التي تعترض الكاتب المغاربي: العربية، الأمازيغية، الفرنسية. ويعود إلى تجربته في التدريس ليعترف أنه درس الأدب باللغة الفرنسية لمدة أربعين سنة دون أن يذكر أمام طلابه اسم مؤلف عربي أو ينطق بكلمة عربية. غير أنه في المقابل لم يفرد كتاباً للأدب الفرنسي، ولم ينشر عنه إلا مقالات قليلة جداً، وهو الحاصل على جائزة "أكاديمية اللغة الفرنسية" منتصف التسعينيات. يقول في كتابه الجديد: "أعرف أنني لن أضيف شيئاً يذكر إلى ما يكتبه الفرنسيون. وفضلاً عن ذلك، فإنهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون مني أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني".
بالمقابل يشرح كيليطو علاقته بالأدب العربي، وبما دفعه إلى تخصيص كتبه عن هذا الأدب، بعيداً عن الأدب الآخر الذي قضى حياته في تدريسه "على العكس من ذلك، لم يفارقني شعور، ساذج بلا شك، أن الأدب العربي يحتاجني بقدر ما أنا أحتاجه. كان ذلك اعتقاداً ثابتاً لدي، ولولاه لما كتبت على الإطلاق".
يعود صاحب "الأدب والارتياب" إلى ما كان يصله من ملاحظات حول كتبه التي أصدرها باللغة العربية بعد "الكتابة والتناسخ"، في حين كان بإمكانه أن يكتبها بالفرنسية، لتجد مساحة أكبر على مستوى التداول والتقدير. هذا ما كان ينصحه به زملاؤه وقراؤه المقربون، أي الكتابة عن العربية، لا الكتابة بها. غير أنه اختار وفق رؤية خاصة أن يكتب لاحقاً عن الأدب العربي بلغته، منتصراً بذلك إلى أدبه وإلى عربيته. لقد ألف كتاب "الغائب" منتصف الثمانينيات بالفرنسية أولاً، لكنه أصدره بالعربية. يعلل هذا الاختيار حين يقول "ربما قمت بذلك دفاعاً عن لغة بدت لي مهضومة".
إن كتاب كيليطو المؤلف من نصوص مكثفة، شبيه بنقاش مفتوح مع المتلقي حول موضوعتين (تيمتين) متلازمتين ظل يحوم حولهما في معظم كتاباته، هما "القراءة" و"الكتابة". وهو إذ يطرح الأسئلة يجيب على بعضها ويترك البعض الآخر للقارئ محاولاً إشراكه في هذا "الهم" الثقافي. إن كيليطو يحترم قارئه ويتواضع أمامه حتى وهو يقدم قراءات وملاحظات في غاية الأهمية حول أعمال أدبية من الشرق والغرب، من زمننا ومن أزمنة أخرى غابرة. وهي ملاحظات لا تتأتى إلا لقارئ كبير مشغول باستمرار بالبحث عن المفارقات والخفايا ومناطق الدهشة في النصوص الأدبية، قارئ لا يريد استيعاب النصوص وتعقب تشكلها، بل يريد أن يمتلك أسرارها.
فن الاستطراد
يتشكل كتاب كيليطو من نصوص قصيرة. معظمها عودة إلى كتب سابقة. كما لو أن هذا الكتاب هو زيادات واستطرادات وتنقيح لكتب سابقة. وقد عبر في مطلع الكتاب عما سماه إحساساً بالنقص لعدم تأليفه كتاباً بموضوع واحد دون استطرادات وتنويعات. غير أن هذا الشعور سيتخفف لديه حين يجد الأمر ذاته لدى كاتب عربي قديم يحبه، هو الجاحظ الذي سينعته بـ"مؤسس فن الاستطراد".
في فصل "فن الخطأ" يعود إلى كتابيه "الغائب" عن مقامات الحريري و"أنبئوني بالرؤيا" ليتوقف عند تيمة النوم. وفي فصل "الفتحة التي تختفي وراء الكسرة" يعود إلى كتابه "بحبر خفي" فاتحاً التأويل بخصوص كسرة الحاء التي كان من الممكن أن تصبح فتحة "حبر". وفي فصل "مجرد حرف" يتوقف عند كتابه "لن تتكلم لغتي". وسيتكرر الأمر ذاته في معظم الفصول. ولا يبدي كيليطو ملاحظاته حول كتبه فحسب، بل يمتد بأسئلته وتأملاته إلى كتب أخرى لـ: كافكا، وبورخيس، ومحمد ديب، وبودلير، والخطيبي، والمعري، والمتنبي وغيرهم.
في كتابه الجديد، كما في كتبه السابقة يبدي كيليطو ولعه بالعناوين، فثمة ميل إلى العناوين الجذابة والمفتوحة التي تترك للقارئ مساحة واسعة من التأويل. ويمكن هنا أن نستحضر مؤلفاته السابقة مثل: "حصان نيتشه"، و"لسان آدم"، و"لن تتكلم لغتي"، و"أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية"، و"أنبئوني بالرؤيا"، و"من نبحث عنه بعيداً يقطن قريباً" وسواها.
يستلهم عنوان كتابه الجديد من مقولة لغاستون باشلار وضعها الكاتب عتبة مجاورة لمقطع شعري لغوته. يقول باشلار "إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلفي الحقيقة في جو من الندم الفكري. والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عملية التفكير".
لا يخلو "في جو من الندم الفكري" من الطرافة. إذ تحضر الروح المرحة لكيليطو وهو يستعيد حادثة طريفة ترتبط بترجمة لكتاب "البخلاء" أنجزها المستعرب الفرنسي شارل بيلا، وكتب كيليطو مقدمة لطبعتها الجديدة. غير أن الناشر أسقط اسم المترجم من الغلاف وترك اسم صاحب المقدمة قريباً من اسم الجاحظ. مما جعل بعض القراء يسألون كيليطو عن الجاحظ الذي كتب "البخلاء"، ظناً منهم، باللغة الفرنسية. يقول كيليطو بخفة ومرح: "ها قد انخرط الجاحظ في زمرة الكتاب الفرانكوفونيين. صار معاصراً لنا، صار مغربياً أو مغاربياً، مع كل ما يعني ذلك. لا شك أنه يحمل نظارة شمسية أو طبية يخفي بها جحوظ عينيه، ولا شك أنه يرتدي لباساً أوروبياً أنيقاً من بدلة ورباط عنق وحذاء لامع".