"التردد في تلقي اللقاحات" من بين أكثر 10 مخاطر تواجه الصحة العالمية، هذا ما أعلنته منظمة الصحة العالمية، أخيراً، والخطورة تكمن أنه لا يمكن أن يعطى اللقاح لشخص من دون آخر ولا لشعب من دون آخر، لأن ذلك لن يوقف انتقال العدوى، فاللقاح يجب أن يعطى للجميع كي يتوقف الفيروس، أي فيروس عن الانتشار، لكن من أين يأتي هذا التردد، ولماذا يرفض البعض أخذ اللقاح الذي سيسهم في شفائه من المرض؟
تاريخ الاعتراض على اللقاحات
هذا الموضوع ليس حديثاً، بل هو قديم قدم اللقاحات، ولنبدأ بما صرح به رجل دين لبناني خلال الأيام الماضية حول لقاح كورونا، فقد قال إن "كورونا من عمل الشيطان وتديره الشياطين"، والحل برأيه يكمن في "الاعتراف بالخطايا وتناول القربان المقدس ودهن الوجه والجبين بالزيت، وغسل الوجه بالمياه المصلى عليه"، وهذا الخطاب ليس فريداً من نوعه، بل هو من بين واحد من مئات الخطب الدينية التي انتشرت حول العالم والتي تنكرت للإجراءات الصحية، ورأت أن مقاومة الفيروس تتمثل في التعبد.
لكن الخوف الحالي من اللقاحات، ليس جديداً من نوعه، فالكائن البشري يخاف أن يدخل إلى جسمه أي شيء لا يعرفه، فكيف الحال بلقاح يتألف هو نفسه من فيروس مضاد، إن هذا الأمر لا بد ستحاك حوله مئات القصص والروايات التي تصب في عالم "المؤامرات"، التي باتت اليوم منتشرة في وسائل الإعلام على اختلافها، على شكل مقالات أو فيديوهات يقدمها أطباء ومختصون في علم الأوبئة والأمراض، وتدور كلها حول أهداف خفية وراء تلقيح عموم البشر.
الخوف نفسه وقع في أواخر القرن الـ19 حين خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع احتجاجاً على فرض لقاحات ضد مرض الجدري في بريطانيا، وحمل المحتجون لافتات تدعو إلى رفض اللقاحات كونها "لعنة تحل بالأمة"، وأُحرقت نسخ من القوانين التي تلزم باللقاحات في الشوارع.
وكان مرض الجدري في حينها يحصد أرواح مئات الآلاف من الأوروبيين من دون توقف، وأطلق عليه اسم "الوحش الأرقط"، بسبب الطفح الجلدي الذي كان يتسبب فيه، وأصبح الجدري أكبر مسبب للوفاة في أوروبا، إذ قتل نحو 400 ألف شخص سنوياً، وفي الأميركتين، استشرى المرض بين قبائل السكان الأصليين، وانهارت ثقافات كاملة، وأصيب ثلث الناجين بالعمى، وكل من لم يمت تقريباً أصيب بتشوهات دائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اكتشاف اللقاح
وبدأت القصة عام 1798، عندما نجحت اختبارات الطبيب إدوارد جينر بمقاطعة غلوستيرشير الإنجليزية في استخدام جرعة طفيفة من مرض جدري البقر للوقاية من مرض الجدري، وخلال خمس سنوات ساد استخدام التطعيم الذي اكتشفه جينر في أنحاء أوروبا. وخلال 10 سنوات، أصبح اللقاح عالمياً، ومع انطلاق اللقاح بدأت معركة عمرها نحو قرن من الصراعات بين السلطات وأفراد من العامة المشككين، اللاجئين للعنف في بعض الأحيان، ما اضطر السلطات البريطانية، إلى جعل اللقاح مجانياً ثم إجبارياً، ثم فرضت غرامات وعقوبات تصل إلى السجن، وحينها تأسس اتحاد ليستر المناهض للقاحات في عام 1869، وللقصة تتمة انتهت إلى اقتناع الناس في حينه بأن اللقاح يشفي من المرض بعد ما لاحظوا الفرق بين من أخذ اللقاح ومن لم يأخذه.
الاعتراض المعاصر
اليوم يختلف الأمر قليلاً، لو وضعنا الاعتبارات الدينية والمعتقدات الشعبية جانباً، وهناك ما يسمى الحرية الفردية واحترام الخصوصية، تلك التي عمل البشر خلال القرن الماضي على تكريسها وحمايتها بالقوانين والتشريعات. وهذه الحريات هي نفسها تقف عائقاً أمام استخدام اللقاح على نطاق واسع، كما وقفت عائقاً أمام استخدام الكمامة وكذلك الحجر الصحي والعزل خلال جائحة كورونا الحالية. فالناس يشعرون أن الحكومات تفرض كثيراً من القيود على حرياتهم بجعل اللقاح إلزامياً، ويشبه هذا الموقف المعترض ما قيل في ليستر حينها إلى حد كبير، لكن الحل آنذاك كان التخلي عن الحريات الشخصية من أجل المجتمع، ومشكلة المجتمعات البشرية اليوم تختلف عنها قبل قرون عدة، فاللقاح الإجباري برأي كثيرين من الأطباء والمحللين النفسيين يؤدي إلى نتائج عكسية، ويزيد من شكوك الناس، خصوصاً مع انتشار المعلومات التي يعتبرها البعض مضللة والآخر صحيحة، من قبل أن هناك أهدافاً في تغيير البنية الجينية للبشر، أو أن هناك محاولة للحد من تكاثر البشر على كوكب الأرض، أو أن اللقاح يؤدي إلى التحكم بأفكار الناس، وغيرها كثير من الأخبار الشائعة في هذه الآونة، ولهذا تعتقد منظمة الصحة العالمية أن التردد في أخذ اللقاح هو أحد أهم التحديات الحالية على الصحة العالمية.
ما اللقاح؟
بحسب الموسوعة الإنجليزية، اللقاح هو مستحضر بيولوجي، يقدم المناعة الفاعلة المكتسبة تجاه مرض معين، ويحتوي اللقاح بشكل نموذجي على وسيط يشبه "العضوية الدقيقة" المسببة للمرض، وغالباً يصنع من الأشكال المضعفة أو المقتولة للجرثومة أو الفيروس أو من سمومهما، أو أحد بروتيناته السطحية، ويحرض هذا الوسيط الجهاز المناعي للجسم ليتعرف على هذا الجرثوم كمهدد له ويدمره، ويبقي لديه نسخة منه كي يستطيع الجهاز المناعي التعرف عليه ويحطمه بسهولة إذا هاجمه أي من هذه العضويات مرة أخرى.
وأسهمت اللقاحات في استئصال مرض الجدري، أحد أكثر الأمراض المعدية والمسببة للوفاة التي عرفتها البشرية، وأمراض أخرى كالحصبة الألمانية، والحصبة، وشلل الأطفال، والنكاف، والحماق، والتيفوئيد، وهي لم تعد موجودة كما كانت موجودة منذ مئات السنين. وما دام أن الأغلبية الكبرى من الناس تتناول اللقاح، سيكون من الصعب ظهور المرض مرة ثانية، عدا عن انتشاره.
وفي وقت ما في أواخر الستينيات عام 1760 عرف الدكتور إدوارد جينر أثناء تدربه على مهنته كجراح صيدلي بالقصة التي شاعت في المناطق الريفية، ومفادها أن عمال الألبان لم يصابوا بالمرض القاتل أي الجدري، لأنهم أصيبوا بجدري البقر والذي له تأثير بسيط جداً على الإنسان، وفي عام 1796، استخلص جينر قيحاً من يد فتاة تعمل حلابة بقر مصابة بجدري الأبقار، لينقله إلى ذراع طفل عمره ثمانية أعوام عبر خدش يده، وبعد ستة أسابيع تم تجدير هذا الصبي بفيروس الجدري، فلاحظ أنه لم يصب بالجدري.
وفي عام 1798 أعلن جينر أن لقاحه آمن للأطفال والبالغين، وأنه قابل للنقل من ذراع لأخرى، ثم اكتُشف الجيل الثاني من اللقاحات من قبل لويس باستور في عام 1880، الذي طور لقاحات من أجل كوليرا الدجاج والجمرة، ومنذ أواخر القرن الـ19 أصبح للقاحات هيبة عالمية، ووضعت لها قوانين إلزامية، وشهد القرن الـ20 اكتشاف لقاحات عديدة ناجحة، بما فيها لقاحات ضد الدفتيريا، والحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية، كما شهد إنجازات كبيرة كتطوير لقاح لشلل الأطفال في الخمسينيات من عام 1950، وفي الستينيات والسبعينيات، كان موريس هيلمان الأكثر إنتاجاً وتطويراً للقاحات في القرن الـ20.
الاقتصاد والتطوير
وترى منظمة الصحة العالمية أن من التحديات الكبيرة التي واجهت اللقاحات التحديات الاقتصادية، فالعديد من الأمراض التي تتطلب لقاحات كالإيدز والملاريا ظهرت في البلدان الفقيرة. وكان الحافز ضعيفاً لدى الشركات الدوائية والشركات الحيوية التقنية لتطوير اللقاحات لأن الإيرادات المالية قليلة. حتى في الدول الأكثر ثراء، كانت العائدات الاقتصادية ضئيلة، بينما كانت المخاطر كبيرة سواء اقتصادية أو غيرها، لذا اعتمدت معظم اللقاحات حتى الآن على التمويل المدفوع من قبل الحكومات والجامعات والمنظمات غير الربحية.
وبرأي المنظمة، اللقاحات تمثل واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ الطب الحديث، وتشير تقديرات المنظمة إلى أنه قد أمكن تلافي 10 ملايين وفاة في الفترة بين عامي 2010 و2015 بفضل اللقاحات التي أعطيت في العالم، كما مكنت من حماية ملايين عديدة من البشر من المعاناة والعجز اللذين يرتبطان بأمراض مثل الالتهاب الرئوي والإسهال والسعال الديكي والحصبة وشلل الأطفال.