ينظر عدد من خبراء الفن اليمني إلى المطرب السعودي محمد عبده باعتباره "أسطورة فنية استثنائية"، لقدرته على جمع محاسن الطرب العربي، وإمساكه بمجد الأغنية من أطرافها الأربعة، فهو الذي غنى التراثي والفولكلور واليمني والصنعاني والعدني والنجدي والبدوي، ثقيله ورجزه، والحجازي بمجساته البديعة.
إلى جانب ذلك، تفرد محمد عبده بمواويله البديعة وسلطنات سجوعه التي تحلّق بشجون الأفئدة في دروب الأماكن وأزقة الذكريات والطرقات العتيقة وعطور الأزمنة، ولهذا استحق لقب "فنان العرب" بجدارة.
إجادة وتجديد
عندما نتطرق لفن محمد عبده الخاص بالتراث اليمني، والصنعاني منه خصوصاً، فلا نقصد أنه أجاده فقط من دون سواه، فهو يتميز بكونه فناناً شاملاً جمع ما تفرّق في غيره، مثل الصوت العذب الذي ينسل في الصبابة رقّة وشجناً، وهو الملحن الذي قدم ألحاناً عظيمة سواء التقليدية منها أو الكلاسيكية في سنّ مبكرة، كموهبة فنية جمعت بين جمال الصوت والقدرة الفائقة على التلحين.
إلا أن اللافت أكثر هو إجادته للون عُرف بصعوبته وجذوره العميقة، وجدده مصحوباً بالتوزيع الموسيقي الذي أضاف له جمالاً ورونقاً بديعاً. فالغناء الصنعاني، نسبة إلى مدينة صنعاء، نوع من الغناء الذي يمتلك مميزات تقنية وجمالية عدة، وذات إيقاع ثقيل، إضافة إلى تميز كلماته وشعره، مما جعله متفرداً عن الألوان الغنائية اليمنية الأخرى. وقد عدته منظمة "يونيسكو" من روائع التراث الثقافي اللامادي الإنساني، بهدف المحافظة عليه وصيانته.
وعلى ذكر تجربة محمد عبده اللحنية، فأجمل أغانيه هي التي من ألحانه، مثل "انشودة المطر، صوتك يناديني، جمرة غضى، الرسائل، إلى من يهمها أمري، حبيبتي ردي سلامي، يا شبيه صويحبي، يا زهور العشب"، وغيرها من الأغاني التي لحنها غيره، على غرار "ليلة خميس، كلك نظر، صمت الشفايف، لنا الله، درب المحبة، عيون الليل، أيووه، اغنم زمانك، كل ما نسنس"، وغيرها كثير.
موشح وإنشاد
يطلق على الشعر الصنعاني تسمية الشعر "الحميني" الذي لا يلتزم بالفصحى وقواعدها، وبعض الباحثين أعادوا تاريخه إلى ما يزيد على 400 عام، وتحديداً إلى فترة الشاعر محمد بن شرف الدين، الذي ظهر نتاجه خلال النصف الثاني من القرن الـ 16.
ويرى عدد من الباحثين أنه ظهر نتيجة المزج بين الموشحات والإنشاد الديني الذي يبدأ عادة بالدعاء، ثم التدرج في الغزل أو العتب، قبل أن يختم بالصلاة على النبي محمد، كما هو الحال في أغنية، "يا مستجيب للداعي...
جب دعوتي بإسراع...
واشفِ جميع أوجاعي...
يا مرتجى يا رحمن...".
ولهذا اقترح معجزة الأدب العربي، مصطفى صادق الرافعي، تسميته بالموشح الملحون لمزجه بين الشعر والموشح، وعادة ما تدور قصائد الشعر "الحميني" حول الحب والغزل، ويسمى بـ "الحميني" نسبة إلى "حُمن" التابعة لمنطقة حيس بمحافظة الحديدة، ومن أبرز شعرائه محسن فايع وابن فليتة والقاضي عبدالرحمن الآنسي والقاضي محمد شرف الدين والقاضي علي العنسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتشار وتطور
في تصريح صحافي العام 2014 حول واقع الأغنية الصنعانية، يرى الحائز على شهادة الدكتوراه في أطروحته "شعر الغناء الصنعاني"، الدكتور محمد غانم، أن التجديد الذي دخل على الأغنية الصنعانية أكسبها بعداً فنياً جديداً، فهو وسع آلاتها الموسيقية فأصبحت تؤدى بفرق تصل إلى 40 عازفاً، مما يعني تقديمها للجمهور العربي بشكل أفضل، كما أنه كسر أرستقراطيتها بتعزيزها بفريق غنائي مصاحب للمطرب (كورال)، مما جعلها أكثر جماهيرية.
ويضع غانم بعض الأسماء الفنية التي نجحت في تطوير الأغنية الصنعانية، وعلى رأسها الفنان السعودي محمد عبده والفنان اليمني المهاجر أبوبكر سالم بلفقيه والفنان عبدالرحمن الحداد والفنان فؤاد الكبسي، كما أن كثيرين من فناني الخليج شدوا بأغانٍ صنعانية، وسجلوا نسباً متفاوتة من النجاحات والإخفاقات.
تراث بالـ "أوركسترا"
ما يميز محمد عبده في غنائه الصنعاني، أنه أجاده حتى تشرّب واستوعب مقاماته وألحانه وأبعاده، وأجادها إلى الدرجة التي يخيل إليك أنه نشأ وعاش بين جنبات باب اليمن أو أحياء صنعاء القديمة أو منازل الطين في بئر العزب، ولعل أبرزها "وامغرد بوادي الدور، لي في ربا حاجر، يا من عليه التوكل، يا مستجيب للداعي، بات ساهي الطرف، جل من نفس الصباح، نسيم بلغ، دع ما سوى الله، قال المعنى، يا نسيم الصباح، خطر غصن القنا، ضناني الشوق، يا بروحي من الغيد، مال غصن الذهب، الناس عليك ياريم، قريب الفرج، يا غصن لابس قميص، زل ريم الحجر"، وغيرها.
ولهذا يمكن القول إن محمد عبده أجاد هذا اللون الصعب وتفوق على الفنانين اليمنيين أنفسهم من ناحية الأداء والكم والتجديد، ونقصد بالأخيرة، أنه أول فنان قدم الأغاني الصنعانية مصحوبة بالأوركسترا، وهي خطوة لم يسبقه إليها أي فنان.
في أغنية:
"قال المعنى سمعت الطير يترنم...
فهيج أشجان كان القلب ناسيها...
عن حب سيد الغواني دري المبسم...
ومن لها أعيان تسبينا سواجيها..."،
بدأها عبده بموال شجي، ثم مقدمة موسيقية أضافت للأغنية جمالاً وشجناً، وكذلك الحال في أغنية:
"يامن عليه التوكل والخلف...
يامن له ألطاف فينا سارية...
يامن إذا تاب عبده واعترف...
يغفر جميع الذنـوب الماضية..."، التي أضاف لها تجديداً جعلها في مصاف الأغاني المطلوبة من الجمهور العربي الواسع في معظم حفلاته.
رحلة التألق والنجاح
واصل محمد عبده، منذ ما بعد السبعينيات تحديداً، تجديد الأغاني الصنعانية ببراعة، إذ قال في إحدى لقاءاته التلفزيونية عندما سُئل عن سر نجاحه في تجديد اللون اليمني، "يبهرنا ويطربنا اللحن اليمني لما فيه من أصالة وعمق". مضيفاً، "غنيت أمام الرئيس الحمدي (حكم من 1974 حتى 1977) غناء يمنياً بالأوركسترا، وهو معروف أنه لا يُغنى إلا بالعود والإيقاع. وقال لي، "أكيد أن لك صلة وثيقة بهذا اللون، وإلا لما استطعت أن تغنيه بهذا الشكل".
وتابع، "هذه الألوان نشأت وتربيت عليها، وقبل أن أبدأ حياتي الفنية كنت أسمع التراث اليمني بشغف ونهم، وكنت على صلة وثيقة بالأغنية اليمنية، ولهذا عندما غنيتها لم تكن غريبة عليّ".
تحذير المرشدي لعبده
صحيح أن الغناء الصنعاني ظهر في زمن مبكر على يد العديد من الفنانين اليمنيين وأبرزهم علي السمة ومحمد الحارثي وعلي الآنسي وأحمد السنيدار وأيوب طارش ومحمد مرشد ناجي، وأبوبكر سالم بالفقيه، إلا أن محمد عبده كان بمثابة المجدد لهذا اللون الفريد أداء وتطويراً وكماً.
ويروي الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي قصة جمعته مع محمد عبده، وتدور أحداثها حول تجربة بدايات الأخير مع الأغنية الصنعانية التي وصفها بـ "الصعبة جداً، فلا أحد يستطيع غناءها إلا إذا كان متمكناً".
يقول المرشدي خلال لقاء تلفزيوني له مع قناة اليمن الرسمية، قبيل وفاته في فبراير ( شباط) 2013، إنه حذر محمد عبده من المجازفة بغناء صنعاني مصاحب للفرقة الموسيقية، لأنه لم يسبق أن حدث ذلك مع فنان قبله، وهي خطوة قد لا يتقبلها الجمهور اليمني. لكن المرشدي أشار إلى أن محمد عبده "قدم الأغنيات الصنعانية بمصاحبة الأوركسترا وأذهل الجميع، وكانت حفلته بصنعاء مطلع السبعينيات بمثابة السفينة التي فتحت له أشرعة الانتشار الكبير والتطور المذهل".
وبعد الحفلة إياها، أوضح المرشدي أنه خاطب عبده منبهراً، "ستدخل التاريخ لأنك أول من غنى الأغنية الصنعانية على أوركسترا". وأضاف، "عندما جاء محمد عبده إلى صنعاء في آخر حفلاته باليمن العام 2004، جاء وقبّل رأسي وقال أنت عظيم فرحتنا". واستطرد ضاحكاً، "خلاص استوى (صار) له جمهور جديد".
واختتم حديثه عن محمد عبده قائلاً، "هو الآن تجاوز الـ 60 من عمره، لكنه ولد وفياً، ولن ينسى هذا الموقف، وقلت له إن أي أحد سيكتب الآن عن الأغنية بالصنعانية لا بد أن يذكر اسمك، لأن أول من غنى الأغنية الصنعانية مع الأوركسترا هو محمد عبده".
حديث المرشدي عن تجربة محمد عبده جرّه إلى التطرق لواقع الأغنية اليمنية التي يرى أنها لن تتطور، ما لم تتخذ خطوات مماثلة لما قام به محمد عبده، فهو نقلها من العود والإيقاع إلى الفرق الموسيقية المصاحبة.
ومثلما امتد تاريخ الغناء الصنعاني إلى نحو 400 سنة، ويغنيه اليمنيون بعود خاص يعرف قديماً بآلة "الطُربي" أو "القنبوس"، وهو عود أصغر حجماً من المعروف حالياً وله أربعة أوتار، فإن محمد عبده كان بحق وتر الغناء الصنعاني الخامس، الذي كان له الفضل في تجديد هذا اللون وتطويره، وتقديمه إلى العالم بصورة عصرية غاية في الجمال والإبداع والشجن.