بعد نحو 3 أشهر على تفجير مرفأ بيروت الذي لا تزال ملابساته غامضة لعموم الناس، أنجز عدد من المخرجين اللبنانيين 15 فيلماً قصيراً تُعرض حالياً على منصّة "شاهد" التدفقية كنوع من رد اعتبار إلى الضحايا الذين سقطوا، سواء من القتلى أو الجرحى. في وقت قياسي يبدو غير كاف لتقديم عمل سينمائي، تجرأت أسماء شابة انطلقت حديثاً في العمل الإخراجي على اقتراح مجموعة أفلام متفاوتة القيمة الفنية. أفلام تتمحور على مأساة أغرقت مدينة كاملة في الدمار والموت والرعب بغضون ثوانٍ قليلة. التروما التي تسبب بها التفجير لا تُمحى بسهولة، لكن أراد المخرجون والمخرجات أن يكونوا شهوداً على ما جرى، بعيداً من أي رغبة في إثارة الجدل أو فتح نقاش، وهو ما يتخطى طموح المشروع نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تأتي السلسلة تحت عنوان "بيروت 6:07". إذا كان اسم المدينة يشير إلى مكان وقوع الكارثة التي لم نر مثيلاً لها في التاريخ الحديث، فالرقم المرفق يدل على توقيت حدوثها. في السادسة وسبع دقائق من مساء يوم ثلاثاء صيفي عادي، أطنان كثيرة من مادة نيترات الأمونيوم المخزنة منذ سنوات في المرفأ، اشتعلت فجأةً لأسباب غير معلومة بعد، ما أدى إلى تفجير هائل وصل صداه إلى قبرص، وخلّف أضراراً مادية وروحية ونفسية جسيمة. فاجعة لم تنهض منها بيروت إلى الآن، تجسدت صورتها الأفظع في غيمة على شكل فطر ارتسمت في سماء المدينة، تذكّر بما صنعته القنبلة الذرية التي ألقيت فوق هيروشيما. أولئك الذين سمعوا دوي التفجير، كانوا من عداد المحظوظين كونهم نجوا من الموت، ولو إن بعضهم فقد حبيباً أو قريباً أو دُمِّر منزله بالكامل.
سلسلة الأفلام القصيرة التي لا يتجاوز الواحد منها الدقائق العشر مستوحاة من قصص حقيقية. إنها حكايات أناس تقاطعت حياتهم مع تلك اللحظة. بعضهم قضى فيها وبعضهم الآخر حمل جراحها وندوبها وآثارها النفسية إلى الأبد على وجهه أو جسده أو وجدانه. هناك أيضاً مَن همّ إلى إنقاذ العالقين تحت الأنقاض أو مَن ودّع زوجاً أو أباً صباحاً من دون أن يعلم بأنه لن يراه مجدداً. باختصار، إنها اللحظات الأخيرة ما قبل الموت المحتم، أو لحظة كتابة حياة جديدة بالدم والغبار والخراب كما لو كانت ولادة جديدة.
الصياد والمرفأ
في "تروبيل" لكريم الرحباني، ربّ أسرة (فادي أبي سمرا) يعود إلى الصيد في مرفأ بيروت الذي صادف أنه فتح أبوابه للصيادين في ذلك اليوم المشؤوم بعد حجر طال أسبوعين. كلمة تروبيل خاصة بالصيادين وهي تعني إصبع الديناميت المستخدم للصيد. الرجل الذي يسكن حياً شعبياً يودّع عائلته، بعد نقاش صغير مع زوجته في المطبخ، وقبل أن يتوجه إلى العمل يوقّفه جاره العجوز ليذكره أنه سيحضّر كأس العرق في انتظار أن يأتيه بالسمك الطازج. في المرفأ، يجلس إلى جانبه صياد مخضرم يمسك بالصنارة وينتظر نصيبه من الرزقة. إنها اللحظات الأخيرة قبل التفجير الذي سيودي بحياة الرجل. الفيلم مستوحى من قصة علي صفوان الذي انتشلت سيارته من البحر وفي داخلها جثته بعد مرور تسعة أيام على التفجير. كريم الرحباني يفضّل التجسيد البصري على أي خطاب وينجح في ذلك على الرغم من الإمكانات المحدودة.
في سلسلة تفيض بتفاصيل عن الحياة العائلية والفقد والدفء المنزلي وحلم الهجرة، اختارت المخرجة سندرين زينون قصة عماد (الفيلم بهذا الاسم) المؤثرة المستوحاة من مصير ثروت حطيط، موثقّة اللحظات الأخيرة من حياته قبل الموت في التفجير. في البداية، نراه يعود إلى المنزل من السوق ومعه مواد غذائية، ثم وصف للحياة اليومية لأسرة تشبه كثراً من الأسر اللبنانية تعاني ما تعانيه من مشاكل معيشية. يحاول عماد توفير ما يضمن لعائلته حياة كريمة، لكن زوجته التي تنتظر مولوداً تلح عليه للهجرة من البلاد، فيرضخ لطموحها. فجأةً، عبر تلاعب بالزمن، ننتقل من لحظة ما قبل التفجير إلى لحظة ما بعده، حيث الزوجة تتفرج على لهيب النار المتصاعد من المرفأ، ثم يقفز الفيلم إلى مراسم تشييع الزوج. رحل تاركاً يتيماً لن يعرف والده.
في "ميرا"، يتعقّب المخرج والناشط المديني لوسيان بورجيلي شخصية ممثلة مبتدئة نراها تخرح من المقهى حيث تعمل نادلة لتتوجه على ظهر دراجة حبيبها النارية إلى مسرح حيث عليها أن تقوم باختبار أدائي (كاستينغ). في الطريق، يدور حديث بينهما. تقول له: "أنت بلا عمل وأنا لا أقبض إلا نصف مرتبي. الجميع يفكّر في الهجرة". نعلم لاحقاً أن هذه ليست سوى جملة من المسرحية. على الرغم من أن الفيلم عن ضحية من ضحايا التفجير، حاول بورجيلي تسويق أفكاره عن الأزمة التي يمر فيها لبنان والعصابة التي تسيطر عليه. مع الذهاب والأياب بين الواقع والمتخيل. كلّ شيء ينتهي على وجه ميرا التي تنظر إلى مصدر التفجير. لا حاجة إلى قول أكثر من ذلك.
بصيص نور
"المحظوظون" لألان صوما من أفضل أفلام السلسلة يقارب المأساة من زاوية مختلفة لعله يضيف طبقة أخرى. فمن رحم الكوارث، بصيص نور يولد أحياناً. هذا فيلم ذو بُعد إنساني حيث وفاة شخص تنقذ حياة شخص آخر. ديامان أبو عبود تضطلع بدور أم تحمل، فور وقوع التفجير، ابنتها المريضة إلى المستشفى حيث عليها أن تخضع لعملية زرع قلب. يصادف وصولها إلى المستشفى مع وصول أم أخرى (كارول عبود) تبحث عن ابنها الضائع. لحظات ويتم تبليغها بأن ابنها قد فارق الحياة، لكن موته سينقذ حياة ابنة الأم الأولى. حكاية بسيطة تضع الخسارة والأمل وجهاً في وجه داخل مدينة منكوبة، وما هو استخدام اللونين (الأسود والأبيض) سوى تعبير عن هذا الثنائي.
"عازفة البيانو" لإميل سليلاتي فيلم آخر يثير الإعجاب. يفتتح بسيدة مسنّة تعمل في مطبخ منزلها. لا شيء سوى الروتين المعتاد الذي تعكّر صفوه الأخبار التي تخرج من المذياع. ثم، تقرر السيدة الجلوس إلى البيانو للعزف، لحظات ويغرق بيتها في فوضى عارمة جراء التفجير. يتطاير الزجاج ويتساقط الأثاث أرضاً ليتحطم ما يتحطم. أسلوب المخرج ينقل هذا كله بحسّ بصري رفيع، مبطئاً الصورة ومركزاً على التفاصيل، في حين السيدة الجريحة لا تزال تواصل العزف كأنها غير آبهة بما يدور من حولها. "عازفة البيانو" يستعيد لحظة مأسوية للاحتفاء بالحياة وسط الخراب والدمار.
"بترون" لإنغريد بواب نموذج لسينما واعدة أنجزتها مخرجة شابة. شاب (جنيد زين الدين) وشابة (بواب) يقضيان بعض الوقت على أحد شواطئ بترون. هو على ما يبدو يعيش آخر أيامه في لبنان قبل الرحيل. مسألة بسيطة تولد خلافاً بينهما. هي ترغب في زيارة أحد الأصدقاء لاستعادة الحياة الاجتماعية بعد فترة طويلة من الحجر الصحي بسبب كورونا، فيما هو يريد التفرد بها لقضاء ما تبقى لهما من وقت معاً. يصر على أنه لا يريد التوجه بسيارته إلى بيروت كي لا يعلق في زحمة السير. لكن ليس هذا ما يحصل، يجد كلاهما نفسيهما داخل سيارة محطمة جراء التفجير. تصوّر الكاميرا السيارة من فوق وهما نائمان داخلها في لقطة "مرعبة" لشدة ثقلها الجمالي.
أخيراً، لا بد من التنويه بفيلم رنا عيد المغاير ("طيف") الذي يقترب كثيراً من السينما التجريبية. على غرار عملها "بانوبتيك"، تقدّم عيد تجربة حسية وصوتية نسمع فيها مناجاة وزقزقة عصافير. شهادتان متداخلتان ترويان النجاة والتيه فيما تمر أشكال مختلفة من المَشاهد على الشاشة.