ما زالت الأسواق العالمية تحاول سبر أغوار موقف الحكومة الصينية من الطرح الأولي لأسهم شركة "آنت" للمدفوعات الإلكترونية الذي كان مقرراً مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي كأكبر طرح أسهم أولي في التاريخ. وتواصل وسائل الإعلام الاقتصادية العالمية، مثل "بلومبيرغ" و"وول ستريت جورنال" و"فاينانشيال تايمز"، تقييم ردود الفعل على موقف بكين ومستقبل أسواق الأسهم الصينية بل وقطاع التكنولوجيا المالية كله في البلاد، التي تسعى لطرح عملة وطنية إلكترونية (اليوان الرقمي) بينما تضع القيود أمام شركاتها في هذا المجال.
وكان من المقرر طرح أكثر من 10 في المئة من الشركة، التي تتبع مجموعة علي بابا للتسوق الإلكتروني الصينية العملاقة التي أسسها الملياردير الصيني جاك ما، ويملك حصة حاكمة (50.5 في المئة) من "آنت غروب"، نهاية الأسبوع الأول من شهر نوفمبر فيما كان يتوقع أن يكون أكبر طرح أولي للأسهم في التاريخ بقيمة تتراوح ما بين 35 و40 مليار دولار.
إلا أن الجهات الرقابية المالية الصينية أوقفت الطرح قبلها بيومين بحجة عدم توافق وضع الشركة مع اللوائح والقواعد المالية الرسمية. وطلبت أربع جهات، منها بنك الشعب (المركزي) الصيني وهيئة مراجعة الأوراق المالية، اجتماعاً مع جاك ما والإدارة العليا للشركة لبحث توافقها مع قواعد جديدة نشرتها السلطات مطلع الشهر بشكل مفاجئ.
وحسب الإعلان الرسمي فإن الطرح الأولي للأسهم "عُلق"، لكن من غير الواضح حتى الآن إن كان سيتم أم لا، خصوصاً وأن "آنت غروب" لا تعرف بعد تفاصيل القواعد الجديدة لتُكيف أوضاعها على أساسها. لكن في كل الأحوال لو أعيد تقييم الشركة على أساس التعديلات المطلوبة، فإن قيمتها ستقل بعشرات المليارات من الدولارات، ناهيك عن أن "تعليق" الطرح الأولي للشركة جعل أسعار أسهمها تنخفض في البورصة الصينية،. وكذلك، شهدت أسهم المجموعة الرئيسة، علي بابا، تراجعاً في البورصة. وتبخرت التطلعات لأن تصبح البورصة في شنغهاي أو هونغ كونغ مقصداً للشركات الصينية الخاصة المسجلة في الخارج، إضافة إلى جذب شركات غير صينية.
مبررات رسمية
تبرر السلطات الصينية موقفها بأن "آنت" ليست شركة تكنولوجية فقط لتلتزم بمعايير ولوائح تنظيم وضع شركات التكنولوجيا، وإنما هي شركة مالية عليها الالتزام بمعايير وقواعد رقابية تتعلق بالخدمات المالية.
وكانت الشركة، التي لا يزيد عمرها عن عدد قليل من السنوات وبدأت في الأساس كذراع مدفوعات إلكترونية للشركة الأم توسعت بسرعة وأصبح لديها ما يقارب المليار مشترك في الصين يستخدمون تطبيقاتها، وأشهرها تطبيق "علي باي" على الهواتف الذكية، في نشاطاتهم المالية الرقمية. ولم تعد خدمات الشركة قاصرة على الشراء والدفع الإلكتروني وإنما امتدت إلى الإقراض والإدخار والاستثمار "أونلاين".
وهذا ما أثار قلق السلطات الرقابية وهيئات الحكومة المركزية، بعد ما أصبحت الشركة تدير أصولاً بتريليونات الدولارات. وكان أهم وأخطر ما طورته شركة "آنت" هو آلية رقمية، عبر خوارزميات معقدة، تشكل أساساً لتقدير الوضع الائتماني للمقترضين الصغار بحيث يمكنهم الحصول على قروض من دون ضمانت صارمة كما تفعل البنوك التقليدية. وأبرمت الشركة اتفاقات مع نحو 100 بنك في الصين لتوفير تلك القروض الصغيرة، على أن تحصل "آنت" على نسبة بسيطة.
وفي خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الست سنوات تمكنت الشركة من توفير القروض الصغيرة لملايين الصينيين، خاصة في المناطق الريفية، واستفادت البنوك من توسيع قاعدة عملاء الائتمان استناداً إلى برامج "آنت" التي تحدد السلامة الائتمانية للمقترضين. واستفادت الشركة كذلك من عدم تحمل تبعات، إذ إن أغلب قروضها مؤمنة من البنوك بنسبة 98 في المئة، أو تعيد الشركة بيع القروض للبنوك بهذه النسبة. كما أن معدلات التحصيل على تلك البنوك ظلت جيدة وتقل مخاطر التخلف عن السداد عن معدلات التخلف والديون المعدومة لدى البنوك التقليدية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن التعديلات الجديدة التي أعلنتها السلطات الصينية قبل أيام من الطرح الأولي لأسهم الشركة تطالب وسيط القرض (في هذه الحالة شركة آنت، سواء بالترتيب بين البنك والمقترض أو بالإقراض هي وتوريق القرض مع البنوك) بتحمل ما لا يقل عن 30 في المئة من القرض، وليس 2 في المئة كما هو الحال في قروض الشركة.
وبررت السلطات ذلك بأن التكنولوجيا المالية (فينتك) كمجال حديث غير مجرب يخشى أن يؤدي التوسع فيه إلى خلق فقاعة ائتمانية تضر بالنظام المالي والاقتصادي للبلاد. لكن المستثمرين، وفي مقدمتهم جاك ما، يتهمون السلطات بالبيروقراطية وقتل روح المغامرة والابتكار. ويرى هؤلاء أن نسبة معقولة من المخاطر ضرورية إذا كانت الصين تريد التقدم في مجال الخدمات المالية الرقمية.
رسالة سلبية
ويرى المستثمرون أن تصرف السلطات يرسل رسالة خطأ للعالم في الوقت الذي تسعى فيه الصين لطرح عملتها الرقمية وتستهدف تعزيز مكانة أسواقها المالية في شنغهاي وهونغ كونغ.
وكتب البروفيسور شانغ-جين وي، كبير الاقتصاديين في بنك التنمية الآسيوي سابقاً، منتقداً خطوة الحكومة الصينية باعتبارها تعني أن دعاوى تشجيع الشركات الخاصة الصينية في مجال التكنولوجيا والتخدمات المالية، والتكنولوجيا الآلية بالتالي، ليست جدية.
وأضاف، في مقال له أن تلك الرسالة السلبية لن تساعد الصين في ما تسعى إليه من جلب شركات التكنولوجيا الصينية لتسجل أسهمها على مؤشرات البورصات المحلية، ناهيك عن تشجيع شركات أجنبية للتسجيل في البورصة في شنغهاي أو هونغ كونغ.
وقال، إن دراسته لمنتجات خدمات تطبيقات "آنت" لسنوات تجعله واثقاً من أنها خطوة مهمة على تطوير سوق التكنولوجيا المالية الصيني، وأنها تستحق تشجيع السلطات بدلاً من تقييدها بالقواعد المعقدة.
يذكر أن من بين الأسباب التي يرى العديد من المتخصصين أنها أثارت حفيظة السلطات الصينية هي خدمات الاستثمار التي توفرها تطبيقات "آنت". فالحكومة الصينية تضع سقفاً صارماً للفائدة على المدخرات وحداً أدنى للفائدة على الإقراض بما لا يسمح للبنوك التقليدية باللجوء لسعر الفائدة الحر في السوق. إلا أن شركة "آنت" توفر عائداً على الودائع في أوعيتها الإدخارية والاستثمارية بسعر الفائدة السوقية، ما يجعلها أكثر جاذبية لصغار المودعين.
وهذا ما جعل بعض التعليقات، حتى في صحف صينية مثل "تشاينا مورنينغ ستار"، ترى في حملة السلطات على شركة "آنت" وجاك ما إشارة غير صحية على عودة المؤسسات الحكومية لتعقيد أي تطور أو نمو للقطاع الخاص. إضافة إلى ما بدأت تتحدث عنه الصحافة الاقتصادية في الغرب عن إدارة الحزب الشيوعي للاقتصاد بطريقة لا تسمح لشركة خاصة بأن تكبر أكثر من حد معين، وأن الأولوية هي بالأساس للشركات الحكومية. بل إن بعض التقارير الإعلامية الغربية رأت في وقف السلطات الصينية لطرح أسهم "آنت"، ومحاولة "قص أجنحتها"، خطوة من أعلى مستوى قد تكون بقرار من الرئيس الصيني شي جينبينغ نفسه لعدم رضاه عن انتقادات جاك ما للبيروقراطية الحكومية واتهامه سلطات تنظيم الأعمال والهيئات الرقابية المالية بخنق الابتكار والتضييق على القطاع الخاص.