من ناحية مبدئية، لا شك أن فيلم المخرج السينمائي الإنجليزي ستيفن فريرز "الملكة"، يدور أساساً حول مقتل الأميرة ديانا في حادث سير باريسي برفقة صديقها في ذلك الحين محمد الفايد. ونعرف أن هذا الموضوع غني في حد ذاته ومليء بالأبعاد الدرامية والخبطات المسرحية والمشاهد التي يمكنها أن تستنفر شتى العواطف وتستدر الدموع، ومع هذا يمكننا أن نرى اليوم مع التراجع الزمني أن الفيلم لم يكن تحديداً عن الحادث الأليم نفسه، الذي جرى آخر شهر أغسطس (آب) 1997، ولا عن تلك الراحلة التي سميت منذ مقتلها "أميرة الشعب"، بقدر ما كان فيلماً عن البدايات السياسية لرئيس الوزراء البريطاني، الذي كان بالكاد قد استلم الحكم في ذلك الحين بفضل انتصار حزبه العمالي "الجديد" (النيو ليبور) في الانتخابات النيابية العامة، فوجد نفسه أمام واحدة من أكثر المعضلات التي تواجه الحكم البريطاني تعقيداً، التوفيق بين رغبة العائلة المالكة في "تجاهل" ما حدث والسمو عليه على اعتبار أن ديانا ووريث العرش الأمير تشارلز كانا مطلقين، بالتالي ليس لديانا مكانة رسمية تؤهل دفنها لأن يحظى بمكانة ملوكية، وبين ما اندفع إليه الشعب الإنجليزي والرأي العام العالمي من تعاطف مع الأميرة على الضد من موقف القصر.
تسييس متوقع
الحقيقة أن هذا هو موضوع فيلم "الملكة"، الذي كان يمكن توقع تسييسه وجعل توني بلير محوره الرئيس، منذ تبين أن كاتب السيناريو ليس سوى بيتر مورغان الذي كانت مواضيعه، المسرحية والسينمائية تدور وستظل دائماً في كواليس السياسة، لا في ثنايا الميلودرامات المدرة للدموع. ومن هنا وفر له هذا المشروع فرصة مدهشة لإعطاء السينما دوراً غير متوقع في التسلل إلى داخل الأحداث وتفسيرها والوقوف عند جوانب منها لم يكن التطرق إليها متوقعاً. وتلكم كانت حال فيلم "الملكة"، حتى وإن كنا نعرف أن النجاحات الكبرى للفيلم ستكون من نصيب الممثلة البارعة هيلين ميرين، التي نالت جوائز عديدة عن لعبها دور الملكة إليزابيت الثانية، منها أوسكار أفضل ممثلة. أما الممثل مايكل شين الذي لعب دور توني بلير، فسوف يكتفي بالمجد السياسي الفني الذي أسبغه عليه لعبه دور بلير نفسه في فيلمين آخرين هما "الصفقة" (2003) و"علاقة خاصة" (2010)، علماً بأنه حلّق حقاً في "الملكة"، إنما دون أن ننسى أن ميرين كانت أكثر تحليقاً إلى درجة أن الملكة إليزابيت لم تخف إعجابها إلى درجة أنها دعتها إلى عشاء في القصر، لم تتمكن الممثلة من تلبيته إذ كانت تؤدي دوراً في هوليوود.
المهم هنا أن نعود إلى الفيلم وإلى ما يرويه لنا عن الدور الذي لعبه توني بلير خلال الأيام القليلة، التي تلت مقتل ديانا وشهدت عض الأصابع بين قصر باكنغهام والرأي العام البريطاني من حول التعامل مع الحادث.
فبلير وجد نفسه يومها بعد أسابيع قليلة من تسلمه الحكم، أمام معضلة سياسية - عائلية قومية، شهدته وهو يصف ديانا بـ"أميرة الشعب" مستجيباً لحداد عشرات ملايين الإنجليز ومئات ملايين الأفراد في العالم أجمع، أمام هول كارثة أودت بحياة صبية كان الناس اعتادوا وجودها و... التسامح مع نزواتها، منذ سنوات.
لكن الأسرة المالكة، لا سيما إليزابيث الثانية وزوجها دوق أدنبرة ما كان يمكنها أن تتسامح، فالمسألة ليست فقط مسألة عائلية، بل قضية كرامة سياسية. وكل هذا أتى ليشكل جوهر هذا الفيلم، وهو كله معروف وينتمي إلى التاريخ المعاصر. لكن فريرز الاستفزازي عادة، إذ اقترب من هذا الحدث الفظيع وما ترتب عليه، شاء أن ينظر إلى هذا التاريخ المعاصر من ثقب الباب. شاء أن يصور ما لم يره أحد يومها، وبالكاد طرح الناس في حينها أسئلة من حوله، كيف عاشت إليزابيث وأهل البلاط كل تلك الأحداث المتعاقبة، في حياتهم الخاصة؟ كيف جرت تلك الأمور التي لا يعرف أحد شيئاً عنها؟
العمالي للتحكيم بين الأسرتين
والحقيقة أن هذا ما أعطى فيلم "الملكة" قوته الاستثنائية ونقطة جاذبيته الأساسية. فهنا، حتى وإن كنا في قلب التاريخ، والتاريخ الذي يعرفه الكل عن ظهر قلب، فإننا أيضاً في قلب "الذي لا يوصف"، في داخل حميمية أهل بلاط باكنغهام المعاصرين لنا. بل أكثر من هذا في فيلم ستيفن فريرز الجديد ثمة حميميتان تنكشفان فجأة أمامنا، حميمية قصر باكنغهام وقصر الصيد الملكي في بالمورال، ثم حميمية بيت توني بلير، حيث أن الفيلم لا يصف فقط ما فعلته الملكة وظل خفياً، بل أيضاً ما عاشه بلير، الذي على رغم عماليته اليسارية، يصل به الأمر إلى إنقاذ الملكة من نفسها... على الضد من رغبة زوجته شيري ذات النزعة المحافظة.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا كله وكأنه يضعنا في قلب دراما قصور من النوع الشكسبيري، لكن الأصح من هذا هو أن الفيلم يبدو منتمياً أكثر إلى عالم ماكيافيللي. والماكيافيللية في هذا العمل القوي والاستثنائي تكاد تصف تصرفات بلير نفسه، في أول تجربة جادة له تتعلق بمسألة الحكم وإدارة الدولة، بعيداً من مبادئ نظرية كان المسؤول العمالي قد تعلمها واعتاد ممارسة بعض منها، قبل وصوله إلى الحكم.
في السمتين إذاً، نحن في قلب التاريخ، وفي قلب السينما إذ تنكشف قدرتها على التعامل مع هذا التاريخ. والأقوى من هذا، أن فيلم فريرز لا يتعامل مع هذا التاريخ في قالب تسجيلي، بل يتعامل مع التاريخ في تحد كبير. إذ نعرف أن مثل هذا الفيلم كان يمكن له أن يفشل لو أن اختيار الممثلين واللحظات المصورة، لم يكن دقيقاً. والمسألة هنا دقيقة تقنياً. ففيلم "الملكة" هو فيلم سيناريو في الدرجة الأولى، أكثر منه فيلم إخراج. وبالتالي هو فيلم يشتغل على مستوى الحوار والحركة المرسومين سلفاً، ما يحتاج إلى قدرات تمثيلية هائلة، ليس فقط من أجل إقناع الجمهور بـ"حقيقة أن هذا قد حدث فعلاً" بل أكثر من هذا، بأن من نراه على الشاشة هو الملكة حقاً، وتوني بلير هنا، والأمير فيليب والأمير تشارلز هم أنفسهم حقاً. وفي يقيننا أن قوة الفيلم الأساسية تكمن هنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التاريخ افتراضياً
إن السؤال الذي يمكن طرحه بصدد هذا الفيلم بديهي، طالما أن موضوعنا هو العلاقة بين السينما والتاريخ، هل حدثت الأمور، في الكواليس، على هذا النحو حقاً؟ الجواب، طالما أننا أمام عمل فني في نهاية الأمر هو، ليس بالضرورة. وكان يمكن لأوساط الملكة ولأوساط بلير أن توضح وتنفي. لكن أحداً لم يفعل. وتحديداً لأننا هنا في صدد عمل فني مهمته أن ينظر إلى التاريخ افتراضياً، وليس واقعياً تماماً. فهنا، في فيلم فريرز هذا، ليس المهم أن يُروى التاريخ (في تفاصيله) كما حدث حقاً. ونحن نعرف أن أحداً لا يملك حتى بالنسبة إلى التاريخ العملي والعلمي زعم أنه يقول الحقيقة... فكيف بالتاريخ وقد حُول إلى عمل فني؟
في فيلم من نوعية "الملكة" ليس المقترح رواية التاريخ، بل رواية ما لا يمكن التاريخ أن يصل إليه. ومن هنا تطلع أمامنا مرة أخرى لعبة التلصص. ولنوضح، كل الناس يعرفون ما الذي حدث حين قتلت ديانا في حادث الاصطدام في باريس. وكل الناس يعرفون أن النبأ خلق أزمة سياسية في إنجلترا، وأن الملكة حاولت التملص من المشاركة في العزاء والدفن، ما زاد من عداء الشعب الإنجليزي للقصر ومن تفاقم الأزمة، وشعبية ديانا بالتالي. ولكن في النهاية وهو أمر يعرفه كل الناس أيضاً، لانت الملكة وشاركت و"حزنت". كل هذا معروف، لكن ما لم يعرفه أحد في أوساط الرأي العام على الأقل هو، كيف حدث ولانت الملكة وما الذي بدل الأمور.
ليس النكران في مصلحة أحد
طبعاً نعرف هنا أن ليس ثمة معلومات موثوقة توضح الأمور... ونعرف بالتالي، أن كل فيلم ستيفن فريرز إنما هو قائم على فرضيات، وعلى رواية يملكها كاتب السيناريو. ومع هذا يمكن لأي كان أن يتصور أن ما نشاهده من حياة الكواليس في الفيلم كان يمكن أن يحدث.
ومن هنا ينتمي "الملكة" إلى التاريخ الافتراضي ويقدم لنا، ماكيافيليا في المضمون، شكسبيرياً في الشكل، أمثولة مدهشة عن الطريقة البارعة التي أنقذ فيها رئيس حكومة عمالي المؤسسة الملكية في بريطانيا، ببعض العبارات والمواقف التي عرف بها كيف يعيد الملكة إلى صوابها وإلى شعبها وشعبيتها. فلمَ اليوم قد يكون من مصلحة قصر باكنغهام، أو من مصلحة بلير نكران ذلك كله؟