بشكل مفاجئ أعلن وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال في لبنان، غازي وزني، أن شركة "الفاريز" أبلغته رسمياً بإنهاء الاتفاقية الموقعة للتدقيق المحاسبي الجنائي. وكشف وزني إثر لقائه برئيس الجمهورية ميشال عون أن الشركة أقدمت على ذلك، وفق كتاب تلقاه منها، "لعدم حصولها على المعلومات والمستندات المطلوبة للمباشرة بتنفيذ مهمتها، ولعدم تيقنها من التوصل إلى معلومات كهذه حتى ولو أُعطيت لها فترة ثلاثة أشهر إضافية لتسليم المستندات المطلوبة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان".
وفي حين أبلغ رئيس الجمهورية، وزني أن "هذا الأمر المستجد يستوجب اتخاذ التدابير الملائمة التي تقتضيها مصلحة لبنان"، غرّد رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عبر حسابه على "تويتر" أن "جدار الفساد سميك جداً ومرتفع جداً أمام الإصلاح. سنبقى نحاول حتى نهدم هذا الجدار الذي يصادر آمال اللبنانيين في دولة تنتصر على الفساد. نحن نعلم أن منظومة الفساد لن تستسلم بسهولة، ونعلم أن هذه المنظومة ستقاتل بشراسة لحماية نفسها. لكنني على يقين أن هذه المنظومة ستسقط في النهاية. اليوم أحبطوا التدقيق الجنائي. ربح الفساد جولة جديدة. لن نستسلم لليأس. لا بد أن تنتصر إرادة اللبنانيين".
المفاجئ هو أن الدولة اللبنانية، ممثَّلة بوزارة المالية، مددت للشركة ثلاثة أشهر بعد اصطدامها بعقبة قانون السرية المصرفية. إذ امتنع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن تسليمها مستندات ومعلومات بحجة أن قانون النقد والتسليف يمنع عليه ذلك.
وشهدت بيروت في الأيام الماضية سجالات ساخنة في شأن مستقبل عملية التدقيق الجنائي في حسابات "المصرف المركزي" التي تُعتبر مدخلاً لمعرفة ما جرى في السنوات الماضية وأسباب الأزمة المالية التي يمر بها لبنان.
وانتقد كثيرون إقدام الدولة على توقيع العقد الذي يكلّف الخزينة اللبنانية خمسة ملايين دولار من دون الأخذ في الاعتبار قانون السرية المصرفية. واعتبر البعض أن هذه الأمر مدبّر لإفشال التدقيق.
تعقد المشهد السياسي
سياسيّاً، وفيما لم ينجح الرئيس المكلّف تأليف حكومة سعد الحريري في تجاوز العقبات التي تواجهه، يُعتبر انسحاب شركة "الفاريز ومارسال" ضربةً لرئيس الجمهورية المتحمّس للتدقيق المحاسبي الجنائي، بالتالي انتصار للفريق المتهَم بالتعطيل. ووفق المعلومات المتداولة، فإن رئيس مجلس النواب نبيه بري هو رأس حربة هذا الفريق الذي يضم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ويفسّر رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر" ذلك بسعي فريق بري وحلفائه في السلطة منذ نهاية الحرب في عام 1990، لحماية أنفسهم وأتباعهم. في المقابل، يعتبر خصوم عون أن التدقيق الجنائي مسيّس ولغاية انتقامية منهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويزيد الانسحاب المفاجئ لشركة "الفاريز ومارسال" المشهد السياسي اللبناني تعقيداً، خصوصاً عملية تأليف الحكومة العتيدة، بينما يرفض دياب تنشيط فريقه الوزاري الذي لا يزال في مرحلة تصريف الأعمال.
وكان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط صرح عبر "تويتر" بهذا الشأن وكتب، "أياً كانت الخلافات السياسية، فإن حكومة الرئيس دياب هي حكومة تصريف أعمال ولا يحق لها دستورياً أن تعتكف عن العمل إلى أن تشكّل الحكومة الجديدة. مرّ لبنان أيام الحرب بظاهرة حكومتين، لكن تسيير المرفق العام قضى باختراع المراسيم الجوالة. اليوم اتخاذ القرارات كالموازنة وغيرها أكثر من ضروري".
ورد دياب عليه بالقول "لن أدعو إلى جلسة لمجلس الوزراء. ولا ننتظر أحداً أن يعلمنا ما يجب فعله". واعتبر أن عمل الحكومة، على الرغم من استقالتها، "يجري كالمعتاد، فالاجتماعات واللقاءات الوزارية ماضية على قدم وساق لمعالجة المواضيع الطارئة، التي تعني، بصورة خاصة، حياة المواطن".
ويرفض دياب عقد جلسة لمجلس الوزراء، لمخالفته القانون، "ناهيك بالخلاف السياسي الموجود في هذه المسألة". وفي خلفية قرار دياب أنه لا يريد أن يعطي "السياسيين المتلكئين عن تشكيل الحكومة فرصةً لأخذ راحتهم بدلاً من الإسراع في إيجاد حكومة فاعلة تتولى معالجة الأزمات والمشكلات التي تطبق على أنفاس اللبنانيين".
وفي حين مر نحو مئة يوم منذ استقالة دياب، في 10 أغسطس (آب) بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس، لم تولد حكومة جديدة. وخلال هذه الفترة عُرقِلت مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي نتج منها تكليف السفير اللبناني في ألمانيا، مصطفى أديب، تأليف حكومة. إلا أن أديب اعتذر وعاد إلى برلين، في حين منح ماكرون الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، الذين وعدوه بالتجاوب مع مبادرته، فرصةً إضافية من الوقت. وتحفّظ "حزب الله" على اتهام ماكرون له بتعطيل المبادرة، ووجّه أمينه العام حسن نصر الله أصابع الاتهام بإفشال المبادرة الفرنسية إلى نادي رؤساء الحكومات السابقين فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام إضافة إلى الحريري. واعتبر أنهم كانوا يسعون إلى إقصاء حزبه، معبّراً عن عدم الثقة في سياساتهم.
انتظار الانتخابات الأميركية
في مجمل الأحوال، كان يسود لبنان اعتقاد بأن تعطيل المبادرة الفرنسية وتأخر الحريري في تأليف حكومته مرتبطان بانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. إذ يُعتقد أن "حزب الله" وإيران يأملان بنجاح الديمقراطي جو بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي مع طهران. لكن، منذ إعلان الأخير رئيساً منتخباً، دخل عنصر جديد متمثّل في احتمال شن الرئيس الحالي دونالد ترمب هجمات على إيران وحلفائها في المنطقة. ما جعل "حزب الله" وفق ما أعلن نصر الله في حالة استنفار عسكري وأمني. وتُرجم ذلك سياسياً محلياً بالتريث في تأليف الحكومة. وثمة من يرى أن رئيس الجمهورية ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل يقومان بمهمة تأخير تأليف الحكومة نيابة عن "حزب الله" ولتحقيق مكاسب خاصة، لا سيما بعد العقوبات الأميركية على باسيل.
ويرفع "التيار الوطني الحر" في وجه الحريري شعار "ولّت الأيام التي كان فيها رئيس الحكومة يختار الوزراء المسيحيين"، علماً أن الحريري رشّح نفسه، بعد اعتذار أديب، لتأليف حكومة من مستقلين لا من حزبيين. ويستند الحريري إلى المبادرة الفرنسية في هذه المسألة وفي تناوب الطوائف على الوزارات. ووافق، خلال محاولة أديب تأليف حكومة، على أن يكون وزير المالية من الطائفة الشيعية ولمرة واحدة، إذ أصرّ "حزب الله" و"حركة أمل" على ذلك، متحججَين بأن المداولات في اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب (1989) شهدت اتفاقاً على ذلك، كي يكون للطائفة الشيعية حق توقيع المراسيم إلى جانب رئيسَي الجمهورية ومجلس الوزراء. وهذا ما ينفيه العديد ممَن شاركوا في "اتفاق الطائف"، ويعتبرون أن المداولات ليست دستوراً أو ميثاقاً إنما هي نقاشات وتبادل آراء.
وتفيد المعلومات بأن "التيار الوطني الحر" يطالب بالاحتفاظ بوزارة الطاقة، الأمر الذي يرفضه الحريري إذ يتهم التيار في المساهمة في هدر نحو 50 مليار دولار في قطاع الطاقة. كما توحي المبادرة الفرنسية بذلك وتطلب إصلاحات في إدارة هذا القطاع، من ضمن سلسلة إصلاحات في الوزارات والإدارات، كشرط للسعي إلى جذب مساعدات للبنان.
يُذكر أن اللبنانيين ممنوعون منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019 من الوصول إلى ودائعهم في المصارف والتصرف بها. وتقول المصارف تبريراً لذلك إن الدولة اقترضتها وتعجز عن إعادتها إلى المصارف وبالتالي إلى المودعين. وفيما يؤكد سلامة امتلاك مصرف لبنان نحو عشرين مليار دولار فقط، تتردد معلومات أن قيمة الودائع في المصارف تتجاوز مئة مليار دولار، وكذلك هي الديون على الدولة اللبنانية. وأعلن لبنان توقفه عن سداد ديون "يوروبوندز"، في حين سرت أنباء عن تهريب سياسيين ومتنفّذين وأصحاب مصارف مليارات الدولارات إلى الخارج، بينما تتهاوى الليرة اللبنانية أمام الدولار، الذي تخطى سعر صرفه في السوق السوداء الثمانية آلاف ليرة لبنانية (كان قبل الأزمة 1515 ليرة).
ويمر لبنان بأزمة خطيرة في مواجهة فيروس كورونا، وينفّذ إقفالاً تاماً حتى 30 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، نظراً إلى ارتفاع عدد الإصابات والوفيات وعجز المستشفيات عن استيعاب مصابين إضافيين. ويُسجل البلد يومياً نحو ألفي إصابة، وسط شكوى قطاع الأدوية والمعدات الطبية من عدم قدرته على الاستيراد بسبب الإجراءات القاسية التي تمنعه من تحويل الأموال إلى الخارج لإتمام عمليات الشراء.