في عام 1964 حقق الإيطالي بيار باولو بازوليني فيلماً وثائقيا سيعرف عالمياً بعنوان "تحقيقات حول الحب". وهذا الفيلم الذي حققه السينمائي والكاتب والشاعر على هامش بحثه عن مواقع لتصوير فيلمه الأقوى "الإنجيل بحسب القديس متّى"، كان عبارة عن مقابلات حول الحب في الزمن المعاصر استجوب فيه بازوليني عدداً من الشعراء والكتاب من بينهم مورافيا وكوازيمودو ومونتالي ولا سيما أونغاريتي الذي، حتى وإن كان أشهر الشعراء الإيطاليين في ذلك الحين، أثار وجوده في الفيلم سخطاً عاماً لسبب جوهري وهو أن الرجل كان ذا ماض فاشي لم يندم عليه أبداً. فكيف يتعامل معه بتلك البساطة سينمائي مثل بازوليني لم يُعرف عنه سوى صراعه ضد الفاشية، بخاصة أنه لم يثر في الفيلم ذلك الماضي!
ندم متأخر وعنيف
مهما يكن، كان واضحاً أن بازوليني سوف يندم على حضور أونغاريتي في الفيلم. وهو سيعبر عن ذلك وإن مواربة في مقال كتبه بعدها بخمس سنوات لمناسبة إصدار منشورات موندادوري أعمال أونغاريتي الشعرية الكاملة بعنوان "حياة رجل". يومها نشر بازوليني مقاله ليشير فيه كيف أن أونغاريتي قد عجز تماماً عن الإجابة على السؤال البسيط الذي طرحه عليه في الفيلم حول الحب! وأضاف "وها هو حتى اليوم لا يجيب إلا بتلعثم كما لو أنه يحتضر وسط أحلام ممتعة"! "يجيب أونغاريتي اليوم، يستطرد بازوليني، بالرقص والغمز من بعيد. يجيب بإلقاء دروس تبدو كإجابات قديمة لطفل غير مسؤول يعرف أن أحداً لن يعاقبه". مهما يكن، يقول بازوليني أن الأسئلة التي طرحها على الشاعر العجوز كانت من النوع الذي لا يمكن الإجابة عليه. ومع ذلك "لست أدري كيف تمسكت البورجوازية الإيطالية بفكرة تجعل من أونغاريتي شاعراً رسمياً لا ينقصه إلا الحصول على جائزة نوبل. صحيح أنه لم يكن في وسع أونغاريتي أن يحول دون ذلك، لكن شعره وحتى عندما يبدو كبيراً فوضوياً ملتبساً طفولياً غامضاً شيطانياً، يظل شعراً غير ناضج وغير مكتمل" لقد فهمت أخيراً، يؤكد بازوليني، ومن خارج الكتاب على أية حال مدى وضوح احتمال حصول مونتالي على أعلى درجات التكريم الرسمية. لقد استحصل مونتالي على جبال البلاغة والبراعة التي أصر أونغاريتي على رغبته في تسلقها بأناقة لا تضاهى".
ويختم بازوليني هنا قائلاً: "لقد أشبعت براعة أونغاريتي حاجة النقد البورجوازي الإيطالي الصغير إلى التفاهة. ومن هنا ولدت صورة لهذا الشاعر زائفة ساعدت في بنائها عودته المجنونة إلى النظام في زمن العودة الجماعية إلى النظام... لكن خطابه بقي محرجاً مثل سذاجته". ولعل في مقدورنا أن نتصوّر كم أن هذه الالتفاتة البازولينية اللاحقة إلى أونغاريتي وشعره و"مساهمته" في الفيلم، قد أسخطت كثراً كما فعلت تلك المساهمة، بالنسبة إلى آخرين طبعاً. كذلك يمكننا أن ندرك كيف تنفس الصعداء كل أولئك الذين كانوا "ينسون" احتساب أونغاريتي ضمن إطار الشعراء الأجانب المولودين في الإسكندرية ويتلعثمون حين يذكّرهم أحد بذلك!
إسكندراني بالولادة والعبور
فإذا كان مؤرخو الأدب قد اعتادوا التوقف طويلاً عند التأثير الذي مارسته مدينة الإسكندرية على حياة وعمل شاعرها اليوناني الكبير قسطنطين كافافي، فإن أونغاريتي كان شاعراً آخر ولد في الاسكندرية، وفي فترة متقاربة زمنياً مع فترة ولادة كافافي فيها، ولم يقل عنه ارتباطاً بالمدينة، على رغم أنه، هو، عاش الردح الأكبر من عمره بعيداً منها، لكن ذلك كان نادراً ما يذكر. ولعل السبب في ذلك هو استقرار كافافي في مدينة الإسكندرية وفي اللغة اليونانية، مقابل تشرد أونغاريتي في العديد من البلاد، وفي لغتين على الأقل، هما الفرنسية والإيطالية.
بشكل عام يمكن اعتبار أونغاريتي شاعراً متوسطياً بامتياز، فهو الذي ولد عام 1888 في الإسكندرية المصرية، عاش القسم الأول من حياته في فرنسا، في باريس طبعاً، ولكن أيضاً في مناطق الجنوب الفرنسي، كما أنه عاش القسم الثاني من حياته في إيطاليا، ناهيك عن تنقله الدائم بين بلدان البحر الأبيض المتوسط. طبعاً، لم يعرف عن أونغاريتي نطقه اللغة العربية أو قدرته على قراءتها، لكن قراءة متأنية لشعره ستجعل من السهل اكتشاف عناصر عدة فيه ترتبط بمصر بشكل أو بآخر، كما ترتبط بالمأثور العربي.
ولد أونغاريتي لعائلة توسكانية مهاجرة إلى مصر. وهو هاجر إلى باريس في 1910 ليتلقى هناك دروسه الجامعية، بعد أن اتجه منذ صباه إلى دراسة اللغة الفرنسية والتحدث بها. وفي باريس انكبّ على دراسة النقد الأدبي، بشكل خاص، في جامعة السوربون، كما درس الفلسفة على هنري برغسون في "الكوليج دي فرانس"، في نفس الوقت الذي راح يرتاد فيه حلقات الشبيبة المثقفة في تلك الآونة. ومن هنا افتخر كثيراً في ما بعد بأنه كان من أوائل الإيطاليين الذين عرفوا بودلير ومالارميه وريمبو "في وقت كان هؤلاء مجهولين تماماً" بحسب تعبيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مجند في حروب متفرقة
في 1925 جند أونغاريتي في الجيش بصفته عضواً في الحزب الاشتراكي الفاشي، وحارب في إيطاليا ثم في فرنسا، ولقد ترك لديه ذلك أثراً لم يمح. وهو انتظر انتهاء الحرب لكي يعود إلى باريس ويواصل احتكاكه بالحركة الأدبية فيها، حيث واصل الكتابة بالفرنسية ونشر القصائد والمقالات في مجلات ذلك الحين الطليعية. وهو انتقل إثر ذلك من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإيطالية حاملاً إلى هذه الأخيرة، وفي مجال الشعر خاصة تجديداً حاول به أن ينقذها من سيطرة لغة دانونزيو وحوارييه. ولقد نجح في ذلك طوال السنوات العشر التالية، حيث بات يعتبر من أفضل الأصوات التجديدية في الشعر الإيطالي الحديث، إلى جانب مونتالي وكازيمودو وسابا. ولقد كان أونغاريتي الأخصب بين هذا الرباعي، كما كان الأكثر امتلاء بالعناصر المكونة لثقافة تمزج بين الطليعية الباريسية والانفتاح المتوسطي، والجذور الكوزموبوليتية الاسكندرانية.
في 1937 قتل لأونغاريتي ابنه، فأثر ذلك عليه تأثيراً كبيراً حيث نجده وقد حوّل شعره من شعر مقبل على النور إلى شعر لا يخلو من حس تراجيدي عميق. امتلأ شعره بتمزق أليم. غير أن وجوده في البرازيل حيث عيّن مدرساً للأدب الإيطالي في جامعة ساوباولو خفف من وطأة ذلك الحدث الأليم عليه. وهو سيظل في البرازيل حتى 1943 حيث سيعود إلى إيطاليا ويعين أستاذاً في جامعة روما. وفي روما هذه المرة، بدلاً من أن ينصرف إلى مواصلة عمله الشعري والتجديد فيه، انصرف إلى الترجمة، فنقل إلى الإيطالية بعض روائع غونغورا وراسين وبلاك ومالارميه، وصولاً إلى الشاعر الروسي سيرغي ييسنين، إضافة إلى انكبابه على كتابة النثر واهتمامه بدراسة الفن التشكيلي. كان يبدو عليه وكأنه يريد أن يولد من جديد، هو الذي كان قد "ولد ألف مرة وعاش ألف منفى" كما يقول في واحدة من قصائده.
توفي أونغاريتي في يونيو (حزيران) 1970، في وقت كانت الحياة الأدبية في إيطاليا قد بدأت تعترف به بصفته واحداً من كبار شعراء القرن العشرين. وفي وقت كان هو قد انصرف إلى كتابة شعر يشعر قارئه أنه شعر شديد المعاصرة. وكان أونغاريتي يبدي في سنواته الأخيرة ندمه لأنه لم يقم في مصر فترة أطول، ولم يعبر عن مصر بشكل أكثر كثافة في أشعاره. هذه الأشعار التي ضمتها، بشكل أساسي، خمسة كتب جامعة صدرت في 1951 لتضع في مركز القلب من الحركة الشعرية الإيطالية والأوروبية قصائد قال عنها الناقد جورجو دي روبرتس: "إن قصائد أونغاريتي تشتغل فنياً: ظاهرياً هي أشعار زاهدة فقيرة، لكنها عند قراءتنا لها، سرعان ما تثرى داخل أفكارنا، بشكل يجعلنا ندرك لم أن أونغاريتي يقول ولا يقول في آن معاً، وبشكل يزيد قوة عما يفعله أي شاعر آخر" ويقيناً أنه لم يكن في هذا الكلام ما يسرّ بازوليني!.