حلّ عيد الاستقلال الـ77 في لبنان في ظل مشهد سياسي مضطرب، تتصدره أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة تعيشها البلاد تحت وطأة انفجار ضرب العاصمة بيروت في شهر أغسطس (آب) الماضي، وأطلق عليه مصطلح "بيروتشيما"، تشبيهاً بما جرى لمدينة هيروشيما جراء الانفجار النووي، إضافة إلى أزمة حكومية وعدم تمكّن الرئيس المكلف سعد الحريري من إعلان تشكيل حكومته جراء الخلافات على حصص وزارية.
وتتزامن ذكرى الاستقلال مع مرور 100 عام على ولادة الجمهورية اللبنانية في عهد الانتداب الفرنسي، إلا أن اللبنانيين لم ينعموا يوماً باستقلال مكتمل، إذ تناوبت إدارات إقليمية ودولية عدة على التأثير في حكمه. فهو كان منذ 100 عام تحت سيطرة السلطنة العثمانية قبل أن ينتقل إلى الانتداب الفرنسي ونيله بعد ذلك استقلالاً هشّاً لم يدُم طويلاً، إلى أن شرّع أبوابه لفتنة مزّقت شعبه ودفعته إلى حرب أهلية طاحنة، فدخلت الوصاية السورية بالتزامن مع احتلال إسرائيلي على أجزاء واسعة من أراضيه الجنوبية. وبعد زوال الاحتلالين، انغمس الشعب اللبناني في خلافات مذهبية وتدخلات خارجية مزّقته وفرضت عليه وصاية إيرانية من خلال "حزب الله" وفق ما يرى كثيرون من اللبنانيين.
تقويض الحريات
كما يعتبر مواطنون كثر أن الاستقلال لم يعُد سوى ذكرى سنوية روتينية فارغة من المضمون في ظل وجود سيطرة واضحة لـ"حزب الله" على مفاصل الدولة اللبنانية واستمراره في بناء منظومة عسكرية رديفة، باتت توازي أضعاف قوة الجيش، إضافة إلى ربط البلاد بمحور إيران الإقليمي، الأمر الذي تسبب بانهيار اقتصادي شامل في ظل أزمة سياسية دفعت إلى هجرة مئات الآلاف من اللبنانيين.
ويشكو هؤلاء في المرحلة الأخيرة من تضييق واضح على الحريات العامة التي لطالما تميّز بها لبنان، مقارنة بدول المنطقة، إذ باتت الاعتقالات والتوقيفات بحق ناشطين سياسيين ومعارضين أمراً شبه يومي، ما زاد من قناعتهم بأن بلادهم ليست دولة حرّة ومستقلة.
معركة مستمرة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر رئيس جهاز التواصل والإعلام في حزب القوات اللبنانية شارل جبور، أن معركة الاستقلال في لبنان بدأت منذ أربعة عقود، قائلاً إن "الاستقلال سقط منذ اتفاقية القاهرة عام 1969، وسقط عملياً وسياسياً على أرض الواقع في 13 (أبريل) نيسان 1975 وما زال إلى اليوم مغيّباً بشكل تام وكلي عن الواقع السياسي في لبنان".
وأشار جبور إلى أن "معركة الاستقلال بدأت منذ أكثر من 40 عاماً وهي مستمرة وستستمر، فلا يمكن لدولة أن تقوم من دون استقلال"، مضيفاً، "عندما يسقط الاستقلال يسقط معه العيش المشترك والاستقرار وتفشل الدولة، وينهار البلد مالياً وسياسياً ومؤسساتياً ودستورياً وقانونياً وهذا ما نحن فيه اليوم".
وأوضح أن "الأولوية الدائمة هي لهذه المعركة، وعلى الرغم من أن الاستقلال سقط منذ أكثر من 40 عاماً، إلا أن هذه المعركة ستنتصر في نهاية المطاف لأن لبنان لا يمكن أن ينهض من دون استقلال، ومع الثورة التي انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 والتي أوجدت وعياً سياسياً لدى الرأي العام اللبناني الذي أيقن أنه لا يمكن للبنان أن يستمر ساحة صراع ونفوذ للآخرين على أرضه".
وتابع جبور أن "ما يحصل اليوم من انهيارات على جميع المستويات يؤكد بالملموس أن لبنان لا يمكن أن ينهض من دون استقلال. وما يحصل اليوم أكبر دليل على أن البلد منهار ومأزوم وطنياً وسياسياً ومالياً ومؤسساتياً وقيمياً، وكل هذا الانهيار يعود إلى عدم وجود استقلال، لذلك معركة الاستقلال ستبقى أولوية الأولويات من أجل إعادة استنهاض لبنان وقيمة لبنان وإعادة الدولة من دولة فاشلة إلى دولة ناجحة".
"ثورة" حتى الاستقلال
ورأى الناشط في المجتمع المدني سمير سكاف أن الثورة لن تقبل بالتقليل من قيمة مطالبتها وتضحياتها بهدف بلوغ الاستقلال الحقيقي، وقال، "لا يمكن للسلطة استكثار مطلب الثورة بحكومة مستقلة، وهي التي تمارس استئثار القرار منذ سنوات، والاستكبار في مواجهة الملايين من الثوار منذ أكثر من سنة"، معتبراً أن استخفاف السلطة بالثورة سيجعل المواجهة تطول وتطول معها الأزمات.
وأضاف، "ما تطلبه الثورة هو استقلال الحكومة عن محاصصات وطائفية ومذهبية الطبقة السياسية"، موضحاً أن هذا الاستقلال يعيد الحياة الديمقراطية المفقودة في لبنان منذ عقود، كون الثورة هي حالة شعبية، وهي أكثر من معارضة لكلّ أهل السلطة الذين، على الرغم من خلافاتهم، يشكّلون الحزب الحاكم الوحيد والموحّد في لبنان تحت عنوان الحكومات التوافقية المتعاقبة. ولفت إلى أن الثورة تريد إسقاط النظام الطائفي ونظام المحاصصة والنظام المهترئ في الإدارة، مشدداً على أن التغيير الحقيقي من خلال "عيد استقلال القضاء".
هيمنة "حزب الله"
في السياق، قال الناشط السياسي المحامي أمين بشير، "غداة الاحتفال باستقلال لبنان، يبدو اللبنانيون وكأنهم لا يزالون مختلفين حول ماهية الكيان، معناه ودوره، ومتنافسين حول استجلاب وصايات جديدة، ومتباينين حول أي من الوصايات هي الأفضل والأقوى"، معتبراً أن هذا الواقع فرضته وصاية محتّمة لم يستطِع اللبنانيون الخروج منها أو عنها بحكم واقع السلاح المتمثل في هيمنة "حزب الله" على القرار السياسي لما تبقّى من دولة وكيان.
وأشار إلى أن "حزب الله" لم يترك للبنانيين حتى حرية التقوقع على الذات وإنشاء الفيدرالية المالية المقنّعة (كأن تذهب ضرائب منطقة معينة إلى خدمات في هذه المنطقة)، فذهب بعيداً وجهارة بالمطالبة بوزارة المالية، أي عصب المال الذي يستطيع أن يشلّ أي وزارة وأي قرار يتّخذ في الدولة، مشدداً على أن "الاستقلال سيبقى عصيّاً في ظل استفحال احتلال القرار اللبناني الوطني من قبل الوصاية الإيرانية التي تتمادى يوماً بعد يوم لتصبح احتلالاً كامل الأوصاف وتضع لبنان ومقدراته في صلب البازار السياسي على طاولة المفاوضات مع الأميركي".
سلاح حزب الله
في المقابل، يعتبر أستاذ العلاقات الدولية قاسم حدرج أن الاستقلال بالمفهوم التقليدي هو سيادة الدولة جغرافياً على كامل أراضيها، وسياسياً على قرارها السيادي في إدارة شؤونها وعلاقاتها الدولية، وهذا ما لم يتحقق بتاريخ 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1943، إذ إن لبنان بقي مرتبطاً، ولو بشكل غير معلن بالسياسة الفرنسية، خصوصاً لدى الموارنة الذين احتكروا منصب رئاسة الجمهورية، مطلقين على فرنسا لقب "الأم الحنون". وأشار إلى أن الحدث الأبرز على طريق استقلال لبنان كان عام 2000 بعد هزيمة إسرائيل في جنوب البلاد، ليبدأ بعدها عهد سياسي جديد، وتحوّل لبنان من دولة تفرض عليها الشروط إلى دولة لها وجود فعال في المنطقة، وباتت تشكّل خطراً على مشاريع الدول الكبرى، مؤكداً أن "المقاومة" بعد التحرير نظمت علاقتها بالمؤسسات الرسمية من خلال البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة التي كرّست معادلة حق لبنان في المقاومة لتحرير ما تبقّى من أراضيه، واستعادت أسراه في السجون الإسرائيلية.
ورأى أنه بعد عام 2006، ارتفعت أصوات فريق لبناني معروف بارتهانه للمطالبة بنزع سلاح "حزب الله"، متسلحة بالقرار 1559 تحت شعار أن هذا السلاح يشكّل ضرب مبدأ السيادة. واعتير حدرج أن "لا استقلال من دون قوة، خصوصاً في زمن العولمة المتوحشة التي تفرض إرادتها بالقوة العسكرية على الدول تحت مسمّيات شتى، بالتالي فإن إخضاع لبنان يتطلب نزع مخالبه المتمثلة في قوة المقاومة تحت ذريعة السلاح غير الشرعي في دولة استوردت على مدى تاريخها الأسلحة من الفلسطيني إلى السوري والإسرائيلي، وقوات متعددة الجنسيات، ولم تتمكّن حتى اليوم من بناء جيش قوي يستطيع الدفاع عن حدودها بوجه الطامعين بأرضها وثرواتها طبقا لحدرج.