تسلّم مجلس الشيوخ الفرنسي مشروع قرار في شأن الاعتراف باستقلال ناغورنو قره باغ، وقال السيناتور برونو ريتايو إن "مجلس الشيوخ سينظر في الـ 25 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، في مشروع قرار في شأن اعتراف فرنسا بجمهورية أرتساخ"، بحسب ما تداولت وسائل إعلام عدة، علماً بأن قرارات مجلس الشيوخ استشارية بطبيعتها.
وبينما من المرجح أن يصدر مجلس الشيوخ الفرنسي هذا القرار، لكن سيبقى مجرد إعلان سياسي وذو طبيعة رمزية محددة من جانب باريس، وحتى تكون له قيمة حقيقية، فلا بد من تبنيه في البرلمان الأوروبي، وهذا شيء مستبعد اليوم، إذ يصعب الاعتقاد أن تُقدم دول أوروبية أخرى على خطوة فرنسا نفسها.
صحيح أنه يُنظر إلى القرار على أنه رسالة إلى تركيا، إلا أنه في الوقت ذاته رسالة إلى روسيا أيضاً، وموقف روسيا أكثر تعقيداً اليوم منه قبل انطلاق حرب قره باغ الثانية، فموسكو اليوم أخذت على عاتقها مهمة حفظ السلام، ولا تستطيع الانحياز إلى أحد الأطراف، ولا تريد تأزيم العلاقات مع أرمينيا أو أذربيجان، وآخر شيء تحتاجه روسيا هو هذا القرار الفرنسي الذي قد يؤدي إلى تجدد المواجهات مرة أخرى.
وكانت هناك محاولات سابقة قبل سنوات عدة من بعض أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي للاعتراف باستقلال قره باغ، لكن دوماً يُنظر إلى أن هذا سيعني بطبيعة الحال تغيير موقع باريس، ودوراً جديداً لفرنسا في عملية تسوية الصراع العرقي القانوني والسياسي طويل الأمد في جنوب القوقاز، وأي تغيير أحادي الجانب في وضع قره باغ من دون مراعاة مواقف بقية الأطراف التي أيدتها باريس الرسمية، سيعني التشكيك في الوضع الحالي لفرنسا كأحد المشاركين في مجموعة "مينسك"، وستظهر تصرفات فرنسا اليوم متناقضة وتكون مفهومة في منطق المناكفات الفرنسية - التركية والفرنسية - الروسية أيضاً، وليس في سياق تسوية الصراع العرقي والقانوني القوقازي.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن فرنسا والولايات المتحدة تعانيان "كبرياء مجروحاً" على خلفية دور موسكو في وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان في قره باغ، كما تكشف مطالبة باريس لموسكو بتوضيح "الغموض" في شأن اتفاق وقف إطلاق النار ودور تركيا فيه، عن عدم الرضا الفرنسي في شأن التهميش الذي تعرضت له الدول المشاركة في رئاسة مجموعة "مينسك"، وهي إضافة إلى روسيا، الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، كما تعيد إلى الأذهان حال المواجهة المتنقلة من جغرافيا إلى أخرى بين باريس وأنقرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظهر الاتحاد الأوروبي في هذه الأزمة المتجددة أشبه بنمر بلا أسنان، لا يلعب أي دور حاسم في المنطقة، وليس لديه سوى المستوى الدبلوماسي، وسيلة محدودة للغاية لممارسة أي ضغط، ولم يستطع الاتحاد الأوروبي ولا باريس إيقاف المعارك بين الأذر والأرمن، وحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بصفته رئيساً مشاركاً لمجموعة "مينسك" تولي زمام المبادرة، وتأكيد نفسه كقائد حقيقي لـ "أوروبا موحدة"، التي تبدو على خلفية وباء الفيروس التاجي بعيدة كل البعد عن مثُل الوحدة الحقيقية.
لا يمكن إنكار أن الاتفاق الثلاثي بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا في قره باغ، شكّل صدمة للغرب عموماً، وبخاصة باريس، إذ كان الجميع واثقاً من أن روسيا وتركيا ستتواجهان في جنوب القوقاز، لكن حدث العكس، ومنعت موسكو وأنقرة مشاركة الأطراف الغربية الغريبة عن المنطقة، واستمرت التصريحات المتوترة بين روسيا والولايات المتحدة، والمناوشات الكلامية بين ماكرون ونظيره التركي رجب طيب أردوغان على جبهات متعددة. إضافة إلى ذلك، لا ينبغي لأحد أن ينسى الوضع الصعب داخل فرنسا، لا سيما في ما يخص أصحاب السترات الصفراء والاحتجاجات الصحافية الأخيرة، ومن مصلحة بوتين وأردوغان تعزيز اتفاق السلام المبرم في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، قبل أن يتولى جو بايدن منصبه في البيت الأبيض، إذ انتقد الأخير الاثنين معاً.
وكشفت حرب قره باغ الثانية من بين أمور كثيرة المشكلات الخطيرة للتحالف الغربي، وتعاونت تركيا العضو في الناتو مع روسيا أحد خصوم الحلف، لتهميش الحليفين الرئيسيين الولايات المتحدة وفرنسا، ويختلف موقف تركيا كدولة في الناتو بشكل كبير عن موقف حلفائها في الحلف الأطلسي واشنطن وباريس، اللذين يدعوان إلى حل وسط، وليس انتصاراً لطرف واحد، وهذا الأمر لم يكن جديداً، وورد في تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1988 بعنوان، "الاضطرابات في القوقاز وتحدي القوميين"، رفعت عنه السرية في 1999، أن نهج تركيا المساند لأذربيجان يقلق البيت الأبيض، ويُنظر أنه قد يؤدي إلى صراع بين الناتو وروسيا.
وتدخلت موسكو للتفاوض على هدنة "حقيقية"، بعد استعادة القوات الأذربيجانية بلدة شوشا، وكانت السرعة التي تصرف بها الرئيس الروسي بوتين ودوره المباشر في تنظيم المحادثات بين الأرمن والأذربيجانيين حاسمة للغاية، وأدت وساطة بوتين إلى نشر قوات حفظ سلام روسية، وفي الوقت ذاته عرف العالم بالاتفاق في وقت مبكر من صباح يوم العاشر من نوفمبر الحالي، كان الجيش الروسي في طريقه إلى قره باغ .
ناقش ماكرون مع بوتين خلال اتصال هاتفي بينهما في 7 نوفمبر، استمرار المعارك على نطاق واسع بين باكو ويريفان، وتوصلا إلى التزام متبادل بمواصلة جهود الوساطة والتنسيق بين روسيا وفرنسا، واستيقظ ماكرون بعد ثلاث أيام من اتصاله ببوتين، وأدرك أن قوات حفظ السلام الروسية باتت موجودة في قره باغ، والصدمة الأخرى التي تعرض لها ماكرون بعد اتصال هاتفي مع بوتين بستة أيام من اتفاق وقف إطلاق النار، بينما أوضح الكرملين في بيان رسمي أن المكالمة الهاتفية جرت لأن "روسيا وفرنسا رئيسان مشاركان لمجموعة "مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا".
ختاماً، يمكن القول في استحضار لعنوان تصدر وسائل الإعلام الفرنسية، أواخر يونيو (حزيران) الفائت، وكان "هزيمة ثقيلة" لماكرون في الانتخابات المحلية، أن ماكرون اليوم بين هزائم داخلية وانتكاسات خارجية، مع عدم إغفال حقيقة أن انتكاساته الخارجية تلحق الضرر بكل فرنسا.