هدوء الظهيرة يعم البيت، الأصوات خافتة، سواء تلك القادمة من الشارع البعيد حيث متعة السكن في الطابق الثامن، أو صوت دق الملعقة على قِدر الطبيخ، إلى أن يقرر الصغير ابن الأربعة أعوام تشغيل التلفزيون، فإذ بصراخ وصوت جهوري: "سيُفرَش القبر ناراً، وستُضرَب رأسه بالمطرقة، ويُشق فمه إلى القفا، وتُرضخ رأسه بالحجارة، ويُحرق في تنور من نار"، تهرول الأم إلى موقع الحدث، حيث غرفة الجلوس الذي يصدح منها التلفزيون، لتجد الطفل وقد التصق بالحائط من فرط الهلع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفوضى
بين هلع تهديد "ديني" تبثه شاشات هنا، وطمأنينة بشارة "دينية" تبثها شاشات هناك، يتأرجح المشاهد المتجول في القنوات الفضائية بين برامج دينية تنشر الرعب والتوتر، وأخرى تزرع السكون وتبث السكينة. وبين هذه وتلك آلاف البرامج والفقرات، التي ظلت تتوغل وتنشطر ذاتياً، حتى أصبح استقلال الفقرة الدينية وتحولها برنامجاً قائماً بذاته ظاهرة يحتار المراقبون في تحليلها، وتسعد الباحثين عن طوق نجاة يعينهم، أو حسن ختام يريحهم أو حتى التعلق بدور أو هوية أو كيان يعيد الثقة إلى ذواتهم.
محمود السيد، البالغ من العمر 57 عاماً، يعمل مهندساً، عادت إليه هويته بفضل عدد من البرامج الدينية التي ظل يواظب على مشاهدتها منذ فتح الله على المسلمين بتدشين قنوات تلفزيونية، لا تقدم سوى الدين في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وصولا إلى عصرها الذهبي في منتصف الألفينيات".
يروي السيد كيف أنه أعاد اكتشاف هويته الإسلامية "التي هي أثمن وأرقى من أي هوية أخرى، سواء كانت مهنة أو أسرة أو حتى دولة". ويضيف: "في تلك السنوات الذهبية، أوقفت بث أي قنوات غير دينية، وأصبحت الأسرة كلها لا تتابع إلا البرامج الدينية التي ثقفتنا، وعلمتنا، وهدتنا إلى الطريق الصحيح، بما في ذلك برامج أطفال دينية وتلك المخصصة للمرأة".
البرامج الدينية المخصصة للمرأة تشغل القاصي والداني. ومشاهدوها رجال ونساء. وموضوعاتها يصفها البعض بـ"المثيرة"، ويراها البعض الآخر "غزيرة"، لكنها تبقى الأكثر جذباً للأضواء والأعلى مكسباً من حيث الإعلانات.
الداعية النجم وثروات الإعلانات
تقول الصحافية ورئيسة تحرير العديد من البرامج التلفزيونية هدى رشوان إن "القائمين على أمر صناعة الفضائيات يدركون أن المصريين متدينون بطبعهم، وإنهم يبحثون عن البرامج الدينية ليتابعوا فقراتها بنهم شديد، لذلك فهي تعتبر نقطة جذب رئيسية للمعلنين وخيراً وفيراً للمحطة التلفزيونية، حيث ترتفع نسب المشاهدة كثيراً. ورغم أن المصريين يعتبرون أنفسهم متدينين بالفطرة فإن قلة الوعي الديني بمفاهيم الدين الحقيقية منتشرة بشكل كبير، ولذلك تكون نقطة انطلاق طرفي النقيض: فهناك من البرامج ما يهدف إلى التثقيف والوعي الديني، وهناك كذلك من يصطاد في المياه العكرة، فينشر الأفكار المتشددة والمتطرفة وينشر الفتنة والجهالة، سواء بنية أو دونها".
ودون أدنى شك، فإن سلسلة برامج العالم الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي التي اجتاحت التلفزيون المصري وغيره من القنوات لتتحول من فقرات شرح وتفسير آيات القرآن الكريم لما يشبه مكوناً رئيسياً في حياة المصريين على مدار ما يزيد على أربعة عقود، لتذاع وتعاد إذاعتها آلاف المرات تمثل نقطة فارقة في مسيرة المكون الديني التلفزيوني. فمن دقائق تثري حياة المشاهدين بمعلومات دينية ونصائح حول المجتمع والمعاملات، إلى ساعات طويلة من التفسير وإعادة التفسير ومعاودة القراءة، أصبحت صورة الشيخ بعد رحيله مثبتة على بوابات مؤسسات وأبواب سيارات وواجهات أكشاك.
ومن دون أدنى تفكير، فإن محتوى العديد من البرامج الدينية اليوم يعكس فكر "نجم الشباك". تقول رشوان: "يصعب معرفة من يحدد المحتوى؟ "هل المحتوى يميل إلى الإثارة والإغراق في توافه الأمور لأن الجمهور يريد ذلك، أم أن القائمين على أمر المحتوى يقررون تقديم وجبات تافهة لجذب الجمهور، ورفع نسب المشاهدة لتحقيق الفوائد المادية المرجوة".
الفوائد المرجوة للمحتوى الديني يعرفها كل من يعمل في مجال الإعلام في مصر. تقول رشوان، المسؤولة عن محتوى موقع "هن" في صحيفة "الوطن" المصرية، إن الخبر الأكثر قراءة أمامها بينما تتحدث وعقب دقيقتين من نشره هو قول مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام "ليس كل انفراد بين رجل وامرأة خلوة غير شرعية"، وهو ما يوضح مدى إقبال المصريين على ما يتعلق بالدين، لا سيما في مثل هذه الموضوعات.
ساعات الذروة
وتشير رشوان إلى أهمية ساعات الذروة في المشاهدة التلفزيونية والتي تحتلها برامج وفقرات دينية نظراً للإقبال عليها. تقول إن واحدة من هذه الأوقات هي بين الثالثة والخامسة بعد الظهر، وهما الساعتان اللتان تتفرغ فيهما كثيرٌ من النساء من ربات البيوت للمشاهدة".
تتابع: "في هذا الوقت تتواتر برامج دينية تتناول موضوعات الخيانة الزوجية، والطلاق، والخلع، والزواج، وكيفية إرضاء الزوج ومعاملة الزوجة وغيرها من الموضوعات التي تبدو دينية، لكنها في حقيقة الأمر اجتماعية ولكن برداء ديني لتعظيم الفائدة!"
تصف رشوان محتوى العديد من هذه البرامج والفقرات بـ"السطحية"، والتي تفتئت على نوعية مشاهدين يتقبلون ما يقدم لهم دون نقد أو مراجعة. "الأدهى من ذلك أن الغالبية المطلقة من القنوات التلفزيونية حالياً باتت تستنسخ البرامج والفقرات الدينية من بعضها البعض دون تفكير أو ابتكار".
دولة الدعاة الجدد
"دولة الدعاة الجدد" ليست مجرد عبارة تعكس ظاهرة تفجر البرامج والفقرات الدينية على القنوات التلفزيونية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، ولكنها أيضاً عنوان كتاب للكاتب الصحافي ورئيس تحرير برامج تلفزيونية عدة وائل لطفي.
يشبه لطفي، في كتابه المطبوع في عام 2007، ظاهرة الدعاة الجدد الذين ظهروا بكثرة على القنوات التلفزيونية بظاهرة المبشرين البروتستانت في أميركا، بالإضافة إلى إغراق هذه البرامج في استضافة نجوم الفن والكرة المشهورين والمحبوبين الذين اعتزلوا وتحجبوا أو اعتكتفوا للحديث عن تجاربهم "الدينية" في الفن والتوبة.
يشرح لطفي كيف أن ظهور هؤلاء الدعاة الجدد، وأغلبهم من خريجي التعليم المدني، وليس الديني، وارتدائهم ملابس مدنية لا الكلاسيكية الخاصة برجال الدين، دغدغوا بها مشاعر المشاهدين من أبناء وبنات الطبقات المتوسطة وما فوقها ممن لا ينجذبون، أو يتأثرون عادة بفكرة بالدق على أوتار المشاعر الدينية واللعب على الشعور بالذنب من أجل التدين.
نور على نور
التدين على شاشة المصري قبل عقود مضت يصفه البعض في مصر بـ"نور على نور". تقول آمال عبدالكريم، 70 عاماً، إنها مازالت رغم تخمة البرامج الدينية الحالية تعتبر برنامج "نور على نور" الذي كان البرنامج الديني الأشهر والأنجح، وربما الأوحد، الذي بدأ مع بداية التلفزيون المصري أو العربي في عام 1960. الألف حلقة ويزيد التي قدمها الإعلامي الراحل أحمد فراج تمثل نموذجا لبرامج التلفزيون الدينية لأجيال مضت.
أضافت عبد الكريم: "بصوت هادئ ونبرة راقية ومحتوى محترم كان أحمد فراج يتناول موضوعات الدين والحياة بشكل بالغ الرقي. لم أسمع منه يوماً تكفيراً لأحد، أو ترهيباً باسم التدين، أو نبذاً لآخر ابتغاء مرضاة الله. كما لم يغرق يوماً فيما يتناوله البعض من باب الإثارة الجنسية عبر الإفراط في الحديث عما يجب النساء أن تفعله بشكل بالغ الفجاجة".
فروق جوهرية
لكن شتان ما بين التدين في البرامج التلفزيونية في الستينيات وقرينتها في التسعينيات. يقول وائل لطفي: "هناك ثلاثة فروق رئيسية بين النوعيتين. في الستينيات كانت البرامج التلفزيونية جزءاً مما يقدمه التلفزيون الرسمي على تلفزيون الدولة. كانت تتم استضافة علماء أزهريين، وما كانوا يقولونه كان جزءاً من رؤية الدولة. وتمتع المحتوى بمستوى ثقافي رفيع، واختيار العلماء الضيوف كان يتم بعناية فائقة. لذا كان المحتوى متطابقاً وتوجه المؤسسة الدينية وبالتالي رؤية الدولة لدور الدين، وهو ما جعل الخطاب يخدم رؤى مثل الاشتراكية العربية ذات البعد الإسلامي، ومناهضة لجماعات مسيسة للدين مثل جماعة الإخوان المسلمين. كل ذلك كان يقدم في قالب إعلامي محترف على أيدي إعلاميين محترفين ومتحكم في محتواها تماماً من خلال ماسبيرو". ويضيف: "رقي المادة الدينية لم يكن منفصلاً عن رقي المحتوى الإعلامي ككل".
شرائط الكاسيت والأسطوانات
يستطرد لطفي: "ما حدث بعد ذلك من تغير أقرب ما يكون إلى التدهور لمحتوى البرامج الدينية ورسالة التدين المقدمة عبر القنوات في أواخر الثمانينيات والتسعينيات ساعدت فيه موضة التدين عبر شرائط الكاسيت ثم الأسطوانات المدمجة وغيرها، ما يعني أن المتحكم في الرسالة التلفزيونية لم يعد الدولة أو جهة بعينها. بل أصبح كل من هو قادر على وضع مضمون على وسيط جديد وبيعه أو توزيعه قادراً كذلك على تقديم مادية دينية. "والنتيحة مادة دينية تلفزيونية تختلف شكلاً وموضوعاً وهدفاً وأسلوباً يختلف تماماً عما كان الراحل أحمد فراج يقدمه في الستينيات".
دعاة تحت الطلب
يضيف لطفي: "أصبح الدين على التلفزيون يرتكز إلى متطلبات السوق، ومستعداً للإذعان لغرائز الجمهور وتلبيتها. وظهرت هذه البوادر منذ تسعينيات القرن الماضي وعلى تلفزيون الدولة نفسه. مجموعة الدعاة الجدد وهم من خارج المؤسسة الدينية الأزهر الشريف ظهروا على شاشات التلفزيون المصري على برنامج كانت تقدمه الإعلامية "الإسلامية" كريمان حمزة، وهو الذي قدم دعاة جدداً مثل عمرو خالد وياسين رشدي وعمر عبد الكافي وغيرهم. وكان هذا هو الفرض الأول لقوى السوق على شاشات البرامج الدينية، حيث رجال أعمال يمولون البرامج ليقدموا نسخة التدين التي يعتبرونها الأمثل والأنسب من وجهة نظرهم، ثم سارت الفضائيات المصرية في ركبها".
موكب البرامج الدينية تحول إلى توجه عام. وانطلقت الفضائيات بالمحتوى الديني بتوجهات لا أول لها أو آخر. يقول لطفي: "هنا تحولت البرامج الدينية إلى برامج توك شو حياتية قائمة بذاتها، وهو ما يعكس حجم دور التدين وهذا الشكل من التدين في حياة المصريين؛ متصل يسأل عن الجنس، وآخر يسأل عن الاقتصاد، وثالثة عن مشكلة في عمله، وهلم جرا. ودخلت البرمج الدينية مرحلة الابتذال. فكلما تلقى البرنامج الديني اتصالات أكثر كلما كان البرنامج أكثر نجاحاً وأعلى مشاهدة. وتزامن ذلك وطغيان حالة الأسلمة الشكلية وتديين المجتمع".
يرصد لطفي "هذا التطور من تحول المجتمع المصري نحو التدين الشكلي، وفقدانهم القدرة على اتخاذ قراراتهم لأنفسهم في كل شؤون الحياة، واعتقادهم بأن طلب الفتوى في كل كبيرة وصغيرة منجياً لهم من العذاب". "وإذا أضفنا إلى ذلك قيام الدعاة الجدد من المذيعين بالتجويد، إذ قدموا مادة تثير المشاهدين وتجذبهم. ومن ثم، لم يعد هناك مجال للقصص التثقيفية، بل تم إفساح المجال تماماً للقصص الدرامية المسلية لضمان التصاق المشاهد بالشاشة وإرضائه".
إرضاء الجمهور أصبح يعني الصراخ والزعيق، حسبما تقول أستاذة علم الاجتماع الدكتور سامية خضر. "رغم أنها برامج وفقرات دينية، لكنه الكثير منها يعتمد على الصراخ والترهيب من كل كبيرة وصغيرة في الحياة. حتى البعض ممن لا يصرخ ويرهب، لا يتم تدريبه على لغة الجسد، حيث لا يصح أن يتحدث أحدهم في شؤون الدين والمعاملات وهو يشيح بيده بطريقة غير لائقة. المسألة ليست برنامج والسلام".
وتضيف خضر إنها تعلمت آداب المائدة والحوار والتعامل مع الكبار وغيرها من خلال برامج دينية هادفة هادئة، لا تميل إلى الإثارة، أو تغرق في تفاصيل تافهة، أو التخويف من النار والعذاب. وأشارت إلى أن سر إغراق الكثير من هذه البرامج في الحديث عن المرأة يعود إلى إنها (المرأة) هي الأكثر قدرة على نقل الأفكار بسرعة ونشرها في المجتمع، وهو سلاح ذو حدود عدة".
انتشرت البرامج والفقرات الدينية حتى أصبح العديد من برامج التوك شو اليومية يعتمد على فقرة دينية ثابتة لجذب المزيد من الجمهور. تقول منة حسام، 26 عاماً، إنها تتعجب كثيراً حين تشاهد البعض من نجوم التوك شو يتحولون من "مذيع فني خفيف لطيف ظريف، ثم رياضي حماسي ناشط رهيب، وفجأة تبدو عليه آثار الورع وعلامات التقوى في اليوم المقرر للفقرة الدينية".
وتظل أسماء البرامج وسماتها وأوصافها تثير الإعجاب حيناً والعجب أحياناً حيث "منبر الوسطية" و"نبراس الموضوعية"، ثم سرعان ما تختفي ليظهر بدلاً منها "طريقك إلى الجنة" أو "نجاتك من النار" وهلم جرا.