في الحلقة الأولى سردنا بتفصيل موجز بدايات الفلسفة الشكية، ودور زعيم السوفسطائيين بروتاغوراس بجعل "الإنسان مقياس الحقيقة"، مشككاً في أية نتيجة معرفية نظراً لعجز العقل، وأن المعرفة نسبية بحسب إدراك الفرد. وكان بيرون أول من صاغ نهجاً فكرياً في النزعة الشكوكية.
الغزالي (1058-1111)
يمثل أبو حامد محمد الغزالي القطب العالمي الثاني في تاريخ الفلسفة الشكية. وإذا شهد بروتاغوراس تباينات المذاهب والمدارس اليونانية، فإن الغزالي عايش أيضاً هذا الوضع مع المذاهب والفرق الإسلامية، بين المتكلمين والمتفلسفين والمتصوفين والباطنيين وغيرهم. ولذلك كان الشك، بالنسبة إليه، الطريق الذي يؤدي إلى الحق. وفي هذا الصدد، يقول إن "الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة" (ميزان العمل).
ويشرح لنا الإمام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" خوضه وتبحره في كثير من المذاهب والعقائد والأفكار المختلفة والمتنوعة بغية الوصول إلى الحقيقة. فوجد أن المطلوب منه هو العلم بحقائق الأمور لكي يصل إلى اليقين الذي لا يعتريه الشك. وهكذا ركز الغزالي في بحثه على طلب "العلم اليقيني" من أجل تحقيق هذا الغرض، إذ إن "العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". فإذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر من العشرة بدليل إني أقلب هذه العصا ثعباناً وقَلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك في ما علمته، فلا.
وبما أن "كل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني"، بحسب تشخيص الغزالي، لذا فقد أخذ يتصفّح علوم زمانه عسى أن يعثر على علم يقوده إلى اليقين.
في بادئ الأمر، لم يجد من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسّيات والضروريات، وبعد أن أقبل عليها بجد بليغ، انتهى للقول، "لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات"، لأن أقوى حاسة وهي البصر تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك، وإنه لم يتحرك دفعة واحدة بل بالتدريج. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً والأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض.
ثم ينتقل الغزالي إلى العقليات التي هي من الأولويات كقولنا، العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوماً، واجباً محالاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من بوادر الثقة بالعقليات، إلا أن الغزالي يثير مع نفسه حواراً خيالياً تخاطبه فيه المحسوسات ضد العقليات، وتجعله يُبطل الثقة بالعقل أيضاً. تقول له المحسوسات، "بمَ تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر في تصديقي. فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر".
وتجاه هذا الأمر، لم يستطع الغزالي جواباً. وقالت له نفسه، أما تراك تعتقد في النوم أموراً وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيها. ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فيمَ تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق، إضافة إلى حالتك التي أنت فيها. يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا أوردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها. ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك الحالة هي الموت، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا". فلعل الحياة الدنيا نوم إضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له أشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له "فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد".
ويصل الغزالي إلى القول، "فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس وحاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعة إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يكن ترتيب الدليل".
وهكذا أعضل الإمام الغزالي هذا الداء، ودام قرابة الشهرين هو فيهما "على مذهب السفسطة"، حتى شفاه الله من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوق بها على أمن ويقين. ولكن لم يكن ذلك وفق ترتيب دليل أو تركيب كلام، بل "بنور قذفه الله تعالى في الصدر"، إذ أفاض الله بنوره الإلهي ونفثه في روع الغزالي فانكشفت له البدهيات والحقائق الأولية، فانتهت شكوكه بالمحسوسات والمعقولات.
إن "ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة".
ثم يقدم الغزالي بعض الاستدلالات في تبيان كنه النور الذي أفاضه الله عليه، معتمداً بذلك على القرآن والحديث النبوي، فهو يذكر قوله تعالى، "فمن يُرد الله أن يهديهُ يشرح صدرهُ للإسلام". (الأنعام: 125). ويقول إنه لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ومعنى "الشرح" فيها. قال، "نور يقذفه الله في القلب". فقيل وما علاقته؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". وهو الذي قال فيه رسول الله، "إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره". ويرى الغزالي بأنه من ذلك النور ينبغي أن يُطلب الكشف، وهو ينبجس من الوجود الإلهي في بعض الأحايين، فيجب الترصد له كما قال عليه السلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها".
بيد أن هذا النور لا يمكن نيله بتلك السهولة، إنه مطلب عسير، ولذا فعلى الباحث أن يبذل كل مجهوده في طلب الحقيقة، وذلك أن "يعمل كمال الجد في الطلب حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب، فإن الأوليات ليست مطلوبة، لأنها حاضرة والحاضر إذا طلب فقد واختفى. ومن طلب ما لا يُطلب لا يُتهم بالتقصير في طلب ما يطلب".
وعندما يوضح الغزالي تفاصيل ذلك النور الإلهي الذي يقذف في الصدر، وذلك عن طريق القرآن والأحاديث النبوية، فلأن شكوكيته كانت ذات نزعة دينية لا عقلية، مع إنه لم يشكك في قدرة العقل بالمحسوسات، لكن ميوله الصوفية جعلته يقصر العقل على "الماورائيات"، ليزول شكه باليقين الروحي، ولقد أصاب الغزالي عندما أتخذ الشك طريقاً لليقين، وفق منهج علمي سبق ديكارت بقرون.