على الرغم من الأزمات الكثيرة التي عايشها الاتحاد الأفريقي منذ تأسيسه، ابتداءً باسم منظمة الوحدة الأفريقية، فإن نتائج تولّيه حل هذه الأزمات لا تتناسب مع مسيرته وخبرته الطويلة. ويواجه الآن ازدياد وتيرة غيابه عن الساحة تدريجاً بعد عدد من الإخفاقات التي لازمته في الفترة الأخيرة في حل النزاعات الأفريقية، المستمرة منها والناشئة، لتطفو إلى السطح عوامل تشير إلى تغييره بمسمّى آخر أو زواله.
بين الواقع والطموح
وفق هدف تحرّري من الاستعمار الأوروبي والقضاء على التخلف الاقتصادي وتوثيق التعاون بين دول القارة، تأسست منظمة الوحدة الأفريقية في 25 مايو (أيار) 1963. ولم تلبث أن نشبت الانقلابات العسكرية في كل دولة نالت استقلالها. ففي الفترة من 1960 – 1990، شهدت القارة نحو 267 انقلاباً ومحاولة انقلابية تزامنت مع تأسيس المنظمة.
ولم يكن من سبيل آخر للوصول إلى السلطة غير هذه المحاولات عند شعوب لم تتعرّف إلى أشكال الحكم بعد. كما تزامن نشوء منظمة الوحدة الأفريقية مع ارتباط دول القارة بالأيديولوجية الاشتراكية، والوعود التي قدمتها بإحداث تغييرات على النظم، سرعان ما ارتبط هو الآخر بالنزاع المسلح ضمن إطار عقائدي وأحياناً إثني.
ومنذ أن طُرح مشروع الوثيقة التأسيسية للاتحاد الأفريقي وبرلمان عموم أفريقيا في مدينة لومي بتوغو في الـ10 من يوليو (تموز) 2000، ثم أُقرّ تأسيسه في قمة لوساكا بزامبيا في الـ9 من يوليو 2001، إلى الإعلان عنه رسمياً في قمة دوربان بجنوب أفريقيا في الـ9 من يوليو 2002، ليحلّ محل منظمة الوحدة الأفريقية، وهو يطمح إلى أن يكون كياناً جامعاً لدول فرّقها الاستعمار ومزّقتها الخلافات وأرهقتها النزاعات الداخلية والانقلابات العسكرية.
وكان ذلك وفق أهداف مثّلت في مجملها مرتكزات، انطلق منها العمل الأفريقي من خلال مجموعة من المبادئ، على رأسها التكامل الشامل بين دول القارة، خصوصاً الاقتصادي منه. وتفرّقت هذه الأهداف بين أجهزة الاتحاد الكثيرة، منها أجهزة تنفيذية ولجان متخصصة، لكن الأكثر إثارة للجدل من ضمنها تمثّل في محكمة العدل الأفريقية التي دخلت في مواجهة مع المحكمة الجنائية الدولية في عدد من القضايا، واعتُبرت منفذاً لهروب عدد من القادة الأفارقة، الذين تلاحقهم محكمة الجنايات الدولية.
أما برلمان عموم أفريقيا، فقد انحصر دوره في محاولة إقناع الرأي العالم العالمي بمشاركة الشعوب الأفريقية في القرارات المتعلقة بالشأنين السياسي والاقتصادي. وهناك أيضاً مجلس السلم والأمن الذي أنشئ لصنع القرارات في ما يتعلق بمنع المنازعات وإدارتها وتسويتها، لكن تعدد طبيعة الصراعات في أفريقيا صعّب عمله.
نهج متناقض
بين توجّه دولي يتبنّى حل النزاعات وتماهٍ مع الزعماء الأفارقة، ظل الاتحاد متوائماً مع أكثر الرؤساء الأفارقة ديكتاتورية وغالبية الأنظمة السلطوية. ولم يمنعه ذلك من إقامة عدد من اللقاءات لإيجاد خطة لمكافحة الفساد وتحويلها إلى نهج مستدام في أفريقيا، وذلك في القمة الأفريقية الثلاثين التي عقدت في أديس أبابا عام 2018. وجاء ذلك التحرك بعد تقارير دولية أفادت بأن الدول الأفريقية، خصوصاً جنوب الصحراء، غارقة في الفساد، بسبب تشبّث رؤسائها بالسلطة والسيطرة على الموارد.
وفي الوقت ذاته، ظل الاتحاد الأفريقي يبذل جهوداً واسعة من أجل حل النزاعات والتنسيق مع المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب، كما عمل على إيجاد الآليات والأجهزة الكفيلة بتحقيق ذلك، خصوصاً أن هذه الصراعات والعمليات الإرهابية مصحوبة بعنف موجّه ضد المدنيين والجماعات الهشة من النساء والأطفال، مثلما حدث في دارفور ومناطق أخرى.
ولم يستطِع الاتحاد ردع الجماعات التي تمارس جرائم ضد المدنيين بمعاقبتهم أو ملاحقتهم أو تسليمهم إلى جهات دولية كانت قد طالبت بهم. وتمادت هذه الجماعات المشاركة في النزاع وتمسكت بعدم المرونة، فلديها قدرة على الصمود لا تزحزحها إلا الانشقاقات أو ضعف قدراتها المالية، ولا تلبث الانقسامات إلا أن تنتج فصائل أخرى تنمو بمتغيرات داخلية وتأثيرات خارجية، أسهم فيها النفوذ المتبادل بين الدول المتجاورة، نتيجة للتداخل الإثني والقبلي.
أما تشجيع الممارسة الديمقراطية والحكم الرشيد الذي من الممكن أن يؤدي إلى الارتقاء بدول القارة، فلم يغادر مسودة النظام الأساسي، إذ لم يكن له دور في توجيه الدول الأفريقية بإعادة النظر في سياستها، لتحقيق هذا المبدأ وللتأقلم مع التطورات العالمية.
أزمة تمويل
كان الاتحاد الأفريقي يعتمد في تمويله على عدد من الرؤساء، مثل العقيد معمر القذافي، وكان ذلك لتحقيق طموحاته الشخصية بأن يكون ملك ملوك أفريقيا، وأن يحوّل الاتحاد منذ أن كان منظمة إلى الولايات المتحدة الأفريقية. وتعرّض الاتحاد لفجوة تمويلية نتيجة توقف مصادر تمويله، بعدما جفّ الدعم السخي المقدّم من بعض القادة الأفارقة، الذين أطاحتهم أحداث 2011 مثل القذافي وغيره من القادة الذين تواروا إلى الظل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وظهرت الحاجة الماسة بعد ذلك إلى تمويل سريع، فوُضع القرار في القمة الأفريقية في كيغالي برواندا التي عقدت في يوليو 2016 بفرض ضريبة على الدول الأعضاء قيمتها 0.2 في المئة على الواردات لتمويل الاتحاد. ولم تكن شروط هذه الضريبة عادلة بما يكفي، إذ تقوم على أمرها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والمجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، بينما تركّزت النزاعات وهدر هذا التمويل في وسط وشرق أفريقيا.
وفي وقت جرى تخصيصها لقائمة من برامج عدة، جاءت حالات الطوارئ في ذيلها. وفي المؤتمر ذاته، فُعّل صندوق السلام لتمويل عمليات الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام والأمن والوساطة بين الأطراف المتنازعة ومواجهة الأزمات، لكن لضعف موقفه كوسيط، انصرف التمويل إلى أنشطة أخرى أقرب إلى التشريفية.
وحملت القمة الـ31 للاتحاد الأفريقي في نواكشوط عام 2018 شكوى من أن "نسبة تحصيل الاشتراكات داخل الاتحاد الأفريقي لا تتجاوز 30 في المئة لمحدودية الدول المساهمة، وأن 75 في المئة من الأموال تذهب إلى موازنة تسييرها، و25 في المئة تخصص لعمليات السلم والأمن في القارة".
ومنذ ذلك الوقت، ألمّت بالقارة أزمات إضافية عدة، مثل النزاع في جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وبوروندي، وأخيراً أزمة سد النهضة والصراع في إثيوبيا. كما تعرّضت القارة لمشكلات أخرى عجز الاتحاد عن توفير تمويل لمواجهتها مثل تفشّي الإيبولا وكورونا.
وواجهت هذه الخطة التمويلية مشكلة أخرى هي أن آلية الرقابة والمساءلة التي كُلّفت بها مفوضية الاتحاد الأفريقي لم تفلح في إلزام اللجنة المعنية بالرقابة والمكونة من بعض وزراء المالية في الدول الأعضاء، بعرض ورصد الموازنة السنوية.
نحو تغيير جوهري
أثبتت المنظمات الإقليمية الموجودة حالياً في أفريقيا فشلها، لانغماسها الداخلي من دون حل أزماتها، وأن القارة بحاجة إلى منظومة تجسّد مفهوم الإقليمية، ولا تنفصل عن الإطار العالمي، فالاتحاد الأفريقي يفتقر إلى تنسيق المواقف المشتركة بين الدول الأعضاء وعرضها دولياً، لذا نجد أن كثيراً من الأزمات في الصومال ودارفور وبوروندي، ظلت مستعرة زمناً من دون أن يتدخّل الاتحاد، ولم يفعل ذلك إلا بعد مجيء القوات الدولية.
رافق منظمة الوحدة الأفريقية فشل دعا إلى تغييرها إلى الاتحاد الأفريقي، لكن ظلَّت طريقة معالجة النزاعات وعجز الأجهزة المتشعّبة عن الاستجابة للتحديات الأمنية عاملاً مستمراً ومُهيّئاً لمزيد من الإخفاق. كما يزيد من صعوبة التعامل مع الاتحاد تنامي النزاعات وتنوعها وعدم مواكبة التطورات الدولية، إضافة إلى تغيير سياسة المحاور الدولية تجاه أفريقيا.
كان بإمكان الاتحاد الأفريقي أن يمضي قدماً في عملية زيادة موارده من داخل القارة لولا احتكار الاستثمار في الموارد لجهات من خارج القارة وفق شروط يصفها الأفارقة بأنها "غير مجزية" حتى على نطاق الدول، لكنها محكومة بعقود طويلة الأجل. كما أن أي تفكير للخروج من عنق الزجاجة من الواضح أن الوضع الحالي ليس مشجّعاً عليه.
ويشير واقع الاتحاد الأفريقي إلى ما قد يؤدي إلى البحث في إمكانية إجراء تغيير جوهري، يشمل هيكله وأجهزته وإقامة تجمع إقليمي آخر قادر على مواجهة التحديات، وأن لا يكون تغييراً في المسمّيات، كما حدث في التحوّل من منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي.