بحذر شديد وهرباً من عيون الرقابة يواظب الأطفال المشردون إدمانهم على استنشاق مادة "الشعلة" في ملاذهم الأخير بين أشجار الحدائق أو الأماكن المظلمة على قارعة الطرقات. يطلبون المزيد من روائح تخدّر أجسادهم الصغيرة النحيلة المتعبة. لعله هروب من واقعهم، أو بمثابة مصيدة ممن يستغلون براءتهم بأعمال التسوّل. ومع تزايد مدمنيها يشتعل الشارع السوري غضباً أمام صور هؤلاء الأطفال.
طفلة "الشعلة"
اختبر السوريون "الشعلة" كمادة لاصقة شبيهة بالغراء منذ زمن وكل سوري يعرفها مادة مفيدة لاحتياجاتهم، لكن تحولت إلى مصدر ضرر تفتك بأجساد صغيرة بريئة حين تحولت مادة مخدرة يستخدمها الأطفال المشردون، بعد انتشار صورة لطفلة سورية ترمي بنفسها تحت تأثير استنشاقها مادة لاصقة في نهر بردى.
وتنادى حينها السوريون إلى عدم بيع هذه المادة، وهي معروفة كمادة شبيهة بالغراء وانهالت الاتهامات حول المسبب بهذه الحالة الاجتماعية.
الحادثة، التي ثّقتها كاميرا هاتف محمول لأحد المارة، كشفت بمرارة عن ظهور طفلة تستنشق من كيس بلاستيكي مادة لاصقة. وأكد ناشطون في المجال الإنساني أنه عثر على الطفلة وسلّمت إلى مركز يهتم بالشؤون الاجتماعية ورعاية الأطفال، بعدما أثار حديثها تعاطفاً كبيراً من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، علماً أن هذا الأمر حدث أمام مقر وزارة السياحة.
ولم تُخفِ الطفلة في المقطع المصور معاناتها قبل أن تهوي في النهر، لتشي عن عائلة مفككة فقدتها كلياً، فوالدتها توفيت ووالدها في السجن. وكانت تتحدث مستلقية أرضاً وممسكة كيساً بلاستيكياً في داخله مادة تواصل شمّها، استسلمت لها متخدرة.
لم تمر هذه الحالة بعد نشرها مروراً عادياً، واستنفرت كل أجهزة الدولة للبحث في تفاصيل الظاهرة بينما لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت منتشرة سابقاً وتتغلغل بين المشردين الصغار حتى قبل الحرب بسنوات.
واستنشاق المواد اللاصقة بدأ كظاهرة ضمن نطاق ضيق في شوارع دمشق، وفي محافظات سورية أخرى مع الافتقار إلى دراسات اجتماعية دقيقة ترصد نسب انتشارها، ولم يتصدّ باحثون للخوض في مضمارها والسبب عدم انتشارها أو لاقتصارها على حالات فردية نادرة.
استغلال البراءة
إدمان الأطفال المشردين للمواد المخدرة أرّق المجتمع، كيف لا وهم صغار؟ وكيف سيكون حالهم حين يكبرون؟ يتساءل ناشطون "إنهم قنابل موقوتة إن لم تعالج هذه الحالات الاجتماعية سريعاً".
لكن "الشعلة"، وبما تحتويه من مواد سامة لم تتوقف عند هذا الحد، بل أخذت تنتشر وبشكل تدريجي في فترة الحرب. وتُرجع الباحثة الاجتماعية دانا عبيد ما يجري إلى واقع أطفال الشارع المشردين المزري وخصوصاً الأيتام، كنوع جديد من الإدمان، بدوافع عديدة. وتجمل أسباب ذلك بقولها "الهروب من واقعهم، ورخص سعر المادة وتوافرها في الأسواق، مقارنة بالمواد المخدرة الأخرى الغالية الثمن والذي يشكل استخدامها جُرماً يحاسب عليه القانون".
وتضيف "إضافة إلى استغلال أصحاب النفوس الضعيفة لهؤلاء الأطفال بأعمال التسوّل، تُمنح لهم هذه المادة من أرباب سوابق يمتهنون التسوّل حتى يتمكنوا من استغلالهم أبشع استغلال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حديث الباحثة عبيد، تزامن مع تمكن الجهات المعنية بالإمساك بشخص يروج للمواد المخدرة في حدائق دمشق ويستغل فتيات لأعمال مشبوهة، بينما بدأت مراكز مجتمعية أهلية ووزارة الشؤون الاجتماعية بالبحث عن الأطفال ومساعدتهم، وتأمين المأوى المناسب لهم في مركز خاص بإيواء الأطفال المشردين، ومن بينها الطفلة التي سقطت في نهر بردى، ونفت وزارة الصحة أن تكون ظاهرة شمّ "الشعلة" بين الأطفال قد انتشرت في المدارس.
وكشفت رئيسة دائرة المخدرات في وزارة الصحة ماجدة حمصي عن مشروع توعوي اسمه "حمايتي" للحد من هذه الظاهرة. وأضافت أنه "يمكن أن يصاب الطفل الذي يشم المادة بكميات كبيرة بأمراض مزمنة مع حالات وفاة مفاجئة".
ضررها الصحي الخطير
"الشعلة" مادة لاصقة وسامة ذات رائحة قوية، ويعد شمها بديلاً رخيصاً من تعاطي المخدرات وحبوب المهدئات العصبية، وتؤدي إلى الإدمان، علماً أنه لا توجد إحصاءات عن وفيات بسبب حداثة الظاهرة بين الأطفال.
ويحذر المدير العام للطبابة الشرعية في سوريا الدكتور زاهر حجو، من تفاقم هذه الظاهرة الخطيرة، وهي نوع من إدمان المذيبات الطيارة تسبب حالة نشوة وفرط نشاط تستغرق حوالي 15 دقيقة، ثم لا يلبث الطفل أن يطلب المادة ويدخل في حلقة مفرغة. ويتابع "تسبب هذه المادة أذية دماغية ورئوية وكبدية وقد تنتهي بالتسبب بالسرطان".
ويؤكد مصدر طبي أثرها الشديد الخطورة في صحة الطفل الجسدية والنفسية، ويتمثل بالرغبة الشديدة في شمها إلى حد الإدمان. ومع ظهور عوارض النشاط والانتعاش، التي سرعان ما تضمحل، لا تبقى لدى الطفل إلا الرغبة في شم المزيد وسط معاناة شديدة. كما أنها تدمّر الجهاز العصبي وتحدث التهابات خطيرة في الجلد وصداعاً مزمناً وطلب كمية كبيرة ما قد يؤدي إلى الوفاة الفورية.