في ظل توجه الحكومة المغربية إلى الاقتراض الخارجي بشكل كبير، يتجدد التحذير من احتمال عودة المغرب إلى سياسة التقويم الهيكلي، التي تفقد الدولة الحرية في توجهاتها الاقتصادية، فيما تمتد تداعياتها لعقود.
وشدد مدير البنك المركزي المغربي عبداللطيف الجواهري مجدداً على خطورة برنامج التقويم الهيكلي، ودعا بلاده إلى العمل بشكل جدي لتجنب الخضوع لها، مؤكداً أن المغرب عمل لأكثر من 25 عاماً من أجل تصحيح الخلل في التوازنات الماكرو اقتصادية بسبب ذلك البرنامج.
واعتبر الجواهري، خلال عرض حول السياسة النقدية وتأثير جائحة كورونا على الاقتصاد المغربي في مجلس النواب يوم الثلاثاء الماضي، أن سياسة التقويم الهيكلي تعد إحدى أخطر السياسات على الدول، إذ تفقدها حرية التدبير الذاتي، وتجعلها خاضعة لقرارات المؤسسات المالية العالمية، كما تبرز خطورتها في اتجاه الدولة إلى الاستثمارات ذات المدى القريب والمرتكزة أساساً على قطاع الخدمات، في مقابل إهمال القطاعين الزراعي والإنتاجي، وإهدار كبير للثروات البشرية، بخاصة في قطاعي الصحة والتعليم.
تحذير معقول
ويؤكد خبراء أن تحذير مدير البنك المركزي له ما يبرره، إذ اعتبر الخبير الاقتصادي المغربي رشيد ساري أن ناقوس الخطر الذي يدقه والي بنك المغرب نابع من تجربته السابقة كوزير للمالية في ثمانينيات القرن الماضي، إذ خضع المغرب لسياسة التقويم الهيكلي التي أفقدته التحكم في سياسته المالية، وبالتالي أصبحت موازناته المالية متحكم فيها من صندوق النقد الدولي.
من جانبه، لمح وزير الاقتصاد والمالية المغربي محمد بنشعبون، خلال طرح مسودة قانون المالية 2020 -2021، إلى كون الاقتراض الخارجي أمر لا مفر منه، لكنه أكد أن الاقتراض الطارئ من شأنه أن يجنب البلاد سياسة التقويم الهيكلي، معتبراً أنه في ظل عدم معرفة الفترة التي ستستغرقها جائحة كورونا، فإنه "يجب، من باب المسؤولية، أن نحضر أنفسنا لأسوأ الحالات، لأنه إذا دامت هذه الأزمة مدة طويلة واحتجنا إلى الأموال، وتوجهنا لطلب قروض من الأسواق المالية أو المؤسسات المالية الدولية، فلا أحد آنذاك سيستجيب لنا لاحتمال وجود أزمة عالمية".
ارتفاع الدين الخارجي
ويؤكد ساري أن نسبة الديون المغربية فاقت 91 في المئة من الناتج الداخلي الخام، فيما ارتفعت خلال أقل من سبعة أعوام الديون الخارجية من 35 مليار دولار إلى أكثر من 106 مليارات دولار خلال عام 2020، معتبراً أن هذا الارتفاع يدل على غياب الإبداع في خلق الثروة، وعدم البحث عن مصادر تمويل مبتكرة لتحسين الوضع الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحذر ساري من الاعتماد على المداخيل الضريبية المحدودة جداً، كونها لن تتمكن من حل الأزمة، مشدداً على الحاجة في الوقت الراهن إلى نموذج تنموي جديد.
ويعتقد أن "اللجنة المكلفة إعداد التقرير الخاص بالنموذج التنموي الجديد ستجيب على السؤال العريض، كيف سيتم إعداد نظام اقتصادي يبتعد من الاقتراض، وبالتالي تجنب شبح سياسة التقويم الهيكلي التي ربما قد تعيدنا للأسف إلى نقطة الصفر؟". مضيفاً، "على المغرب اعتماد سياسة تقشفية مدة ثلاث سنوات على الأقل، والتفكير ملياً في تعيين كفاءات عالية في المناصب الوزارية بالحكومة المقبلة، إذ لم يعد أمام البلاد أي هامش للخطأ".
تجربة مريرة
لم يكن أمام المغرب عام 1983، نتيجة فشله في تسديد ديونه لصندوق النقد والبنك الدوليين، إلا الخضوع لبرنامج التقويم الهيكلي المفروض من المؤسستين في البنيات والبرامج التي يقوم عليها الاقتصاد المغربي، في الوقت الذي يشكل فرض مزيد من الضرائب أسوأ مبدأ يُبنى عليه البرنامج.
وخلال تذكيره بتجربة المغرب تلك، أشار الجواهري إلى أن بلاده سبق أن خضعت لتطبيق سياسة التقويم الهيكلي بصفة رسمية من عام 1983 إلى 1993، بعدما عانت مشكلات مالية كبرى تمثلت أساساً في وصول نسبة عجز الموازنة إلى 12 في المئة عام 1983، إضافة إلى وصول الدين العام إلى 82 في المئة، كما أن احتياطي العملات الصعبة لم يكن يغطي أكثر من يومين، فيما وصل التضخم إلى حدود 10 في المئة.
توقع انكماش اقتصادي
توقع وزير المالية المغربي أن يسجل الاقتصاد المغربي انكماشاً في معدل النمو وتفاقماً في عجز الموازنة، مقارنة مع قانون المالية لعام 2020، مما سيؤدي إلى اختلالات على مستوى توازن المالية العامة، بسبب تراجع المداخيل المتوقعة، لا سيما تلك المتعلقة بالمجال الضريبي، إذ من المرتقب أن تسجل الموارد الجبائية انخفاضاً بأكثر من 18 في المئة.
ونظراً لهذه المعطيات السلبية، ينتظر أن يصل عجز الموازنة لعام 2020 إلى ما يناهز 7.5 في المئة من الناتج الداخلي الخام، مقارنة مع المستوى المتوقع مسبقاً، 3.5 في المئة، مما سيؤدي إلى ارتفاع حجم حاجات الخزانة إلى مبلغ 40.1 مليار درهم (4.4 مليار دولار)، مقارنة بتوقعات قانون المالية لعام 2020، والتي حددت في 42.3 مليار درهم (4.6 مليار دولار).
وأكد بنشعبون أنه بعد الأخذ بالاعتبار الأثر السلبي المزدوج لتراجع النمو من جهة، وارتفاع عجز الموازنة من جهة أخرى، فمن الطبيعي أن يرتفع مؤشر دين الخزانة بالنسبة إلى الناتج الداخلي الخام، إذ من المرتقب أن يصل إلى مستوى يقارب 76 في المئة بنهاية عام 2020، بعدما كان سجل انخفاضاً عام 2019، وذلك للمرة الأولى منذ عشرة أعوام، ليستقر في حدود 64.9 في المئة.
وعلى الرغم من هذا الارتفاع الذي يعتبر نتيجة حتمية للظروف الصحية والاقتصادية غير المسبوقة، فإنه لن يؤثر كثيراً في استدامة الدين، وذلك بالنظر إلى الهوامش المتاحة، إذ إن البنية الحالية للدين سليمة، إضافة إلى أن مؤشرات الكلفة والمخاطر الخاصة بها تبقى في مستويات آمنة ومتحكم فيها.
كما أكد أن حصة الدين الخارجي لا تتعدى 20 في المئة من مجموع دين الخزانة، إضافة إلى أن معظم الدين الخارجي تتم تعبئته بشروط ميسرة، كما أن المدة الزمنية المتوسطة المتبقية للسداد تصل إلى ما يناهز سبعة أعوام في نهاية النصف الأول من العام 2020، مسجلة بذلك تحسناً مقارنة مع نهاية العام 2019، بينما لا تتجاوز حصة الدين ذي الأمد القصير 13.2 في المئة.
وأشار بنشعبون إلى أنه بالتزامن مع تحسن مؤشرات الآجال، فمن المتوقع أن تعرف الكلفة المتوسطة لدين الخزانة تحسناً خلال العام الحالي، نظراً إلى الانخفاض المهم لأسعار الفائدة الخاصة بسندات الخزينة في السوق الداخلية، واستمرار تدني مستويات أسعار الفائدة العالمية التي ترتكز عليها كلفة القروض الخارجية المحصلة، سواء من الدائنين الرسميين أو من السوق المالية الخارجية الدولية.