ما بين التحرش اللفظي والجسدي والإلكتروني، والتحرّش في أماكن العمل وفي المنازل وعلى يد الأقرباء أحياناً، تبدي النساء الأردنيات صمتاً مطبقاً حيال ظاهرة تتباين حولها آراء الأردنيين بين من يعتبرها تصرفات فردية لا تعبر عن المجتمع الأردني المحافظ، ومن يرى فيها "تابوهات" مسكوتاً عنها.
لكن الثابت الوحيد أن واقع التحرش الجنسي في الأردن لا يزال، حتى الآن، ظاهرة مخفية على نطاق واسع. وهو ما دفع اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة إلى إطلاق حملة ضد التحرش تحت عنوان "ما تسكتوش التحرش جريمة".
التحرش بالأرقام
ضمن هذا السياق، صدرت أخيراً دراستان حول التحرش في الأردن. وتكشف دراسة بعنوان "ظاهرة التحرش في الأردن" أعدتها اللجنة الوطنية لشؤون المرأة أن 75.9 في المئة من النساء تعرضن لواحد أو أكثر من أفعال وسلوكيات التحرش، وأن أكثر الأشخاص الذين ارتكبوا التحرش في المنزل هم "الأقارب الآخرون" بنسبة 11.8 في المئة، وفي الأماكن العامة "الغرباء الذكور" بنسبة 52.9 في المئة، وفي أماكن العمل والدراسة "الزملاء الذكور" بنسبة 29.1 في المئة، وفي الفضاء الإلكتروني "الغرباء الذكور" بنسبة 43.9 في المئة.
بينما كشف تقرير "نساء صامتات"، الذي أعدته منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية، أن 84.2 في المئة من الأردنيات و95 في المئة من اللاجئات السوريات أفدن بأنهنّ لم يتعرضن أبداً للتحرش الجنسي في مكان العمل.
ويبرر التقرير، الذي يرصد الفترة ما بين العامين 2017 و2018، هذا الرقم بأن معظم النساء في الأردن لسن متحمسات بعد للتبليغ عن حوادث التحرش، بل إنهن يتخوفن من ذلك، خصوصاً أن القوانين الأردنية وفق التقرير لا تعمل على منع التحرش الجنسي في مكان العمل، ولا تدعم النساء في الإبلاغ عنه.
وتخشى النساء من تداعيات الإبلاغ عن المضايقات بسبب الوصمة الاجتماعية وانعدام ثقتهن في القوانين وغيرها من آليات الحماية.
التحرش اللفظي والإيمائي الأكثر شيوعاً
تقول الدكتورة سلمى النمس، الأمينة العامة للجنة الوطنية لشؤون المرأة، إن التحرش الإيمائي نال الحصة الأكبر من حيث الانتشار، تلاه التحرش اللفظي، ثم الإلكتروني والجسدي، وأخيراً التحرش النفسي.
وأشارت إلى أن التحرش الإلكتروني أصبح ظاهرة مثيرة للقلق وبحاجة إلى اهتمام خاص، مؤكدة أن ثقافة الصمت لا تزال سائدة. إذ جاء الخوف على السمعة كأحد أهم الأسباب للتصرف بشكل سلبي إزاء المعتدي، ما يؤكد ضرورة إحداث تغيير مؤسسي ومجتمعي تجاه الظاهرة وآلية التعامل معها.
وحاولت الدراسة تفنيد العديد من الفرضيات السائدة حول التحرش، من قبيل أن لباس المرأة هو أبرز أسباب التحرش بها. وتبين أنه لا توجد أي علاقة مباشرة ما بين ملابس الضحية والتحرش. كما تبين أن الفرضية السائدة، التي تقول إن ذروة التحرش بالفتيات ليلاً غير صحيحة، خصوصاً أن نتائج الدراسة بينت أن أعلى نسبة للتحرش تكون من الساعة 11 صباحاً وحتى 5 عصراً.
محاربة التحرش بالفيديو!
في العام 2012، حاولت الدكتورة رولا القسوس، عميدة كلية اللغات الأجنبية في الجامعة الأردنية آنذاك، محاربة التحرش بطريقة مختلفة. فكلفها ذلك منصبها الذي أُقيلت منه.
"هذه خصوصيتي" هو عنوان فيديو قصير حول ظاهرة التحرش الجنسي التي تتعرض لها طالبات الجامعة الأردنية، الذي أشرفت عليه الدكتورة القسوس. وفي الفيديو، تظهر طالبات يحملن لافتات كتبت عليها عبارات تحرش يسمعنها بشكل يومي من الشبّان. غير أنه أعتبر فضيحة صادمة على اعتبار أنه حمل عبارات خادشة للحياء، وهو ما أثار عاصفة من الجدل بين الأردنيين آنذاك.
ظاهرة أم حالات فردية؟
يعتبر المحامي عاكف المعايطة أن التحرش لم يعد تصرفاً فردياً، إنما ظاهرة بحد ذاتها، مشيراً إلى أن الاهتمام يجب أن ينصب على توعية المجتمع ككل. بينما تقول الصحافية أرواد خليفة إن الفتاة في عمان تحديداً لا تستطيع أن تمشي مدة خمس دقائق في الشارع من دون أن تتعرض لتحرش لفظي وتعليقات، حتى لو كانت محجبة.
وترفض خليفة فكرة أن الحديث حول الظاهرة فيه تشويه لسمعة الأردن والأردنيين، مشيرة إلى أن الوقت قد حان لتوعية الجميع حول مخاطر ذلك.
لكن خليل، الذي يعمل موظفاً في محل لبيع الملابس، يرى أن مسؤولية التحرش يتحملها الشاب والفتاة معاً، معتبراً أن لباس الفتاة يلعب دوراً كبيراً في تعرضها للتحرش.
ويقول عدد من الطالبات، رفضن الكشف عن هويتهن بسبب حساسية موضوع التحرش في مجتمع لا يزال محافظاً كالمجتمع الأردني، إن أسوأ ما يواجههن ليس التحرش بحد ذاته، إنما عدم قدرتهن على مواجهة ذلك قانونياً.
فالفتاة التي تتعرض للتحرش، وفق "هناء"، التي تدرس سنتها الثانية في كلية الآداب بالجامعة الأردنية، لا تجرؤ على البوح بما تعانيه لأن أول من سيُعنفها هي عائلتها، على حد تعبيرها.
وتطرح زميلتها "أروى" مشكلة التحرش اللفظي الذي تتعرض له يومياً، على حد تعبيرها، خلال رحلة تنقلها الطويلة من خلال المواصلات العامة من المنزل إلى الجامعة.
لكن "رنيم"، التي تستعد للتخرج من الجامعة، تشير إلى تحرش أكثر خطورة في رأيها، يمارسه بعض أفراد الهيئة التدريسية في الجامعة، وتدور خلاله مساومات "رخيصة"، مستغلين حاجة الطالبات إلى بضع علامات للنجاح.
التحرش في القانون الأردني
لا يوجد تعريف مباشر للتحرش في القانون الأردني، لكن السلطة الأردنية أقرت تعديلات تشريعية على قانون العقوبات، خصوصاً ما يتعلق بالمادة 305، التي كانت تشير إلى المعاقبة بالحبس من شهر إلى سنتين كل "من داعب بصورة منافية للحياء" شخصاً لم يكمل الـ 18 من عمره. وفي حال تكرار الفعل لا يجوز، وفق القانون، تحويل عقوبة الحبس إلى غرامة.
وتشير المادة 306 من القانون نفسه إلى المعاقبة "بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة 30 ديناراً إلى 200 دينار كل من عرض على شخص لم يكمل الـ 18 أو على أنثى مهما بلغ عمرها عملاً منافياً للحياء أو كلاماً منافياً للحياء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن تعديلاً تشريعياً ألغى المادة 305 واستعاض عنها بالمعاقبة بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من "داعب بصورة منافية للحياء شخصاً لم يكمل الـ 18 سواء كان ذكراً أم أنثى أو أكمل الـ 18 دون رضاه". وألغى التعديل المادة 306 واستعاض عنها بالحبس "مدة لا تقل عن ستة أشهر بكل من عرض فعلاً منافياً للحياء أو وجه عبارات أو قام بحركات غير أخلاقية على وجه مناف للحياء بالقول أو الفعل أو الحركة أو الإشارة تصريحاً أو تلميحاً بأي وسيلة كانت".
وتقول هالة عاهد، المحامية المتخصصة والمستشارة القانونية في اتحاد المرأة الأردنية، إن ثمة صعوبات تواجه المتحرش بهنّ، من قبيل إثبات واقعة التحرش في العمل، في حين أن قانون العمل الأردني يعطي الحق للعامل، في حال تعرضه لأي نوع من الانتهاكات، أن يتقدم بشكوى إلى وزارة العمل.
وتطرح عاهد مشكلة أخرى هي وجود تصرفات معادية للنساء داخل مؤسسات العمل، منها التعليقات العنصرية أو البذيئة والنكات غير الأخلاقية والتلميحات الجنسية، والنظرات كلها تندرج تحت مصطلح التحرش، ولا يعترف القانون بها.