تعاني تركيا خلال الأيام الأخيرة أزمة سياسية واقتصادية بالغة، وأصبحت الآن تواجه ضغط العقوبات من قوتين عظميين.
وتابع الأتراك عن كثب، مثل بقية العالم، الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز بها الديمقراطي جو بايدن.
وبالطبع، ستكون على رأس أجندة العلاقات الأميركية - التركية، العقوبات الاقتصادية التي من المرجح أن تتصدر جدول الأعمال، بسبب شراء أنقرة صواريخ "أس400" الروسية.
من جانب آخر، سيناقش قادة الاتحاد الأوروبي في القمة التي ستعقد يومي 10 و11 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، قضية فرض عقوبات على تركيا بسبب نشاطاتها في مجال البحث عن الغاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وأزمتها مع اليونان. وتدعم دول أوروبية عدة هذه العقوبات.
أيام صعبة مقبلة
وسأورد بعض الأمثلة التي تنذر بالأيام الصعبة التي تنتظر تركيا، لأنتقل بعد ذلك إلى تداعيات العقوبات الأميركية والأوروبية ومدى تأثيرها في ردع أنقرة. فقد نشر معهد الإحصاء التركي "تويك"(TUIK)، التابع لوزارة الخزانة والمالية، تقرير "مؤشر الثقة"، وفيه تناول البيانات الخاصة بالمصرف المركزي، المتعلقة بحسابات العملات الأجنبية والذهب. ويدل التقرير على أن عالم الأعمال لا يثق بوعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعهد جديد من الانفتاح في الاقتصاد، كما أن المواطنين الأتراك لا يهتمون بالنداءات التي تدعو إلى تبديل الذهب والعملات الأجنبية التي يملكونها بالعملة المحلية.
من جهة أخرى، أشار تقرير نشرته منظمة التجارة والتنمية (UNCTAD) التابعة للأمم المتحدة، حول الاستثمار العالمي، إلى حلول تركيا في المركز الـ 13 في استقطاب الاستثمار، ويدل ذلك على مدى تدني مستوى البلاد التي كانت تحل في التقارير السابقة بين المركزين الخامس والثامن، مما يدل على عزوف المستثمرين الأجانب عن السوق التركية.
كذلك يشير أحدث تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن تركيا هي الأعلى بين الدول الأعضاء في ارتفاع نسبة أسعار الفائدة.
في موازاة ذلك، أعلن المعهد الإحصائي للاتحاد الأوروبي (Eurostat) أن متوسط أسعار الكهرباء والغاز انخفض في دول الاتحاد الأوروبي، بينما تسجل تركيا الأسعار الأكثر ارتفاعاً لهاتين المادتين في أوروبا.
كما ذكر معهد "كاتو" (CATO) في تقريره السنوي حول الدول الأكثر بؤساً في العالم، أن هناك ثلاث دول في أوروبا مدرجة في تلك القائمة، على رأسها تركيا تليها أوكرانيا والبوسنة والهرسك.
وتُبين هذه المعلومات والبيانات بوضوح، أن الأزمة الاقتصادية التي بدأت قبل نحو سنتين باتت تؤثر بشكل ملحوظ في المواطن التركي، وإذا أضفنا إلى ذلك تأثيرات القرارات التي ستتخذها الولايات المتحدة وأوروبا في شأن العقوبات على تركيا، فإن الوضع سيزداد سوءاً بالنسبة إلى مواطنيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العقوبات الأوروبية
فلنبدأ من العقوبات الأوروبية. صادق البرلمان الأوروبي أخيراً بغالبية ساحقة على نص قرار يطالب بانسحاب القوات التركية من جزيرة قبرص، وينتقد قرار فتح منطقة "مرعش" للاستخدام المدني، ويعتبر نشاط تركيا في مجال البحث عن الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط "استفزازياً وغير قانوني".
وطالب البرلمان الأوروبي الاتحاد الأوروبي بإدانة أفعال تركيا، و"الرد على تصرفاتها بعقوبات صارمة".
كما أكد نص القرار أيضاً على التغير الطارئ على السياسة الخارجية لأنقرة، مشيراً إلى الدعم المفتوح من تركيا لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا بسبب قضية إقليم ناغورنو قره باغ، ودورها في ليبيا وسوريا، كدليل على أنها تتحرك من منطلق "مصالحها الجيو-اقتصادية" وطموحاتها الجيو-سياسية".
لا نقاش في أن تركيا ابتعدت أخيراً من القيم الأوروبية أكثر من أي وقت مضى، لكنني مع ذلك لا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي سيتخذ قراراً بفرض عقوبات تعوق توفير الأسلحة والقروض والتمويل لأنقرة، فعلى الرغم من أن فرنسا وهولندا واليونان وقبرص، تبذل جهوداً لفرض العقوبات، إلا أن نجاحها في ذلك صعب، إذ إنه واضح أن ألمانيا التي يبلغ حجم التجارة بينها وبين تركيا 45 مليار دولار، لن تميل إلى هذا الاقتراح، على اعتبار أنها أكبر الدول الأوروبية المصدرة للسلاح إلى تركيا.
ومع ذلك، ستستخدم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذا الأمر كورقة مساومة بوجه أردوغان الذي يعاني تأثيرات الأزمة الاقتصادية، لتقنعه بتبني أسلوب التفاوض والحوار الدبلوماسي، وستعبّر ميركل لأردوغان بوضوح عن أنه لا يمكن الحيلولة دون العقوبات إلا بهذه الطريقة التي تفتح الباب أمام تحسن العلاقات مرة أخرى.
وأصبح أردوغان يدرك جيداً أنه إذا تعثرت التسهيلات المالية والاجتماعية، وانقطعت القروض الأوروبية التي تتلقاها البلاد، فإن العملة التركية ستشهد تدهوراً دراماتيكياً، ولذلك سيتراجع ويجلس إلى طاولة المفاوضات.
العلاقات مع واشنطن
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يتوقع أن يصوت الكونغرس الأميركي بحلول منتصف ديسمبر (كانون الأول) المقبل، على اقتراح قانون موازنة الدفاع الوطني لعام 2021، الذي يتضمن فرض عقوبات على دول من بينها تركيا التي اشترت منظومة صواريخ "أس–400" للدفاع الجوي من روسيا.
ويرجّح الموافقة على هذه العقوبات الاقتصادية بغالبية الثلثين في جناحي الكونغرس الأميركي، مجلس الشيوخ ومجلس النواب. ومن الصعب جداً على الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب، الذي خسر الانتخابات أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، أن يستخدم حق النقض (الفيتو) ضد هذا القانون.
وأود أن أشير إلى أن حجم التبادل التجاري السنوي بين تركيا والولايات المتحدة يبلغ 25 مليار دولار أميركي، مما يعني أن هذه العقوبات ستزيد احتمال إجبار أنقرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وليس من الصعب التنبؤ بما إذا كان بايدن، بعكس ترمب، سيقيم علاقة وثيقة مع الاتحاد الأوروبي عندما يتولى منصبه، وما إذا كانت أميركا ستتبنى نهجاً مشتركاً مع الاتحاد الأوروبي، أو لن تكون في عجلة من أمرها لتنفيذ أي قرار في شأن تركيا.
فإذا تفهمت تركيا هذه اليد الممدودة إليها، ولم تقلب الطاولة، فلربما يمكنها التخلص من هذه العقوبات، وعندما ننظر إلى الصورة الحالية نفهم أنه ليس لدى أردوغان خيار آخر.
ولكن مهما فعل الرئيس التركي، فلن يكون قادراً على إصلاح الأزمة الاقتصادية والسياسية التي أقحم فيها البلاد.
وحتى لو تخطى هاتين المشكلتين الخطيرتين القادمتين، فلن يكون قادراً على وقف انهيار "حزب العدالة والتنمية" الحاكم.