كشفت بيانات رسمية حديثة، عن ارتفاع معدل التضخم السنوي في تركيا بشكل أعلى من المتوقع مسجلاً 14.03 في المئة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ أغسطس (آب) 2019.
وبشكل مباشر يعود الارتفاع الكبير في معدلات التضخم إلى انهيار الليرة مقابل الدولار الأميركي، وهو ما يبقي على الضغوط التي تحث على تشديد السياسة النقدية بعد قيام البنك المركزي التركي برفع أسعار الفائدة بنسبة كبيرة الشهر الماضي.
وعلى أساس شهري، زادت أسعار المستهلكين 2.30 في المئة خلال نوفمبر الماضي، بحسب ما أظهرت بيانات معهد الإحصاءات التركي. ويحوم التضخم قرب 12 في المئة منذ بداية العام الحالي على الرغم من تراجع اقتصادي حاد في الربع الثاني من العام بسبب تشديد إجراءات مكافحة التفشي الأول لفيروس كورونا.
ويؤدي انخفاض العملة التركية، الذي يتجاوز أكثر من 26 في المئة منذ بداية العام، إلى ارتفاع الأسعار عبر الاستيراد بالعملة الصعبة وأبقى التضخم قرب مستوى 12 في المئة طوال العام. وأشارت البيانات إلى أن مؤشر أسعار المنتجين صعد بنسبة 4.08 في المئة على أساس شهري في نوفمبر مسجلاً زيادة سنوية 23.11 في المئة.
بيع حصة في بورصة إسطنبول لسد العجز
وتواجه تركيا العديد من الأزمات منذ عام 2018، وسط تدخلات مستمرة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السياسة المالية والنقدية للبلاد.
وعلى خلفية الأزمة وفي إطار تدبير تمويلات عاجلة لوقف العجز الضخم في الموازنة والإنفاق العام، أعلن صندوق الثروة السيادي في تركيا، أنه باع نحو 10 في المئة من أسهم بورصة إسطنبول إلى جهاز قطر للاستثمار مقابل 200 مليون دولار بموجب اتفاق وقعه الجانبان الأسبوع الماضي.
وأضاف الصندوق في بيان، إنه سيظل يحتفظ بحصة قدرها 80.6 في المئة من أسهم البورصة. وقال إن الصفقة تشير إلى قيمة إجمالية بملياري دولار لأسهم بورصة إسطنبول.
في الوقت نفسه، كشفت دراسة حديثة أعدها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ومقره الإمارات، أن الاقتصاد التركي مر بتحولات دراماتيكية خلال السنوات الأخيرة، في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها الحكومة، بجانب الشركات الخاصة، مع تزايد وتضخم حجم المديونيات، ووصولها إلى مستويات قياسية، باتت تمثل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الكلي، ووصلت تبعاتها إلى الحياة اليومية للأتراك، الذين عانوا، وما زالوا، من ارتفاع غير مسبوق في تكلفة المعيشة، وبشكل لم يسبق له مثيل منذ ما يقرب من عقدين من الزمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال المركز في الدراسة التي جاءت تحت عنوان "تأثير الأزمة الاقتصادية على المستوى المعيشي للأتراك"، إن بعض البيانات والمؤشرات الاقتصادية تكشف عن حجم المعاناة التي بات يعيشها الأتراك، في ظل تلك المعطيات السلبية. ولا ريب أن هذه المعاناة قد تزايدت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الشهور الماضية، لا سيما مع اندلاع أزمة كورونا، التي اجتاحت العالم، وألقت بظلالها على الاقتصادات العالمية الأكثر اعتماداً على التدفقات النقدية الآتية من الخارج، كالاقتصاد التركي الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات القطاع السياحي، وكذلك على الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن استغلال الدولة لموقعها الجغرافي وجعل نفسها مركزاً لعبور مصادر الطاقة من دول الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك.
أسوأ عملات الأسواق الناشئة
ونتيجة للظروف الاستثنائية التي مر بها الاقتصاد التركي خلال السنوات الأخيرة، برزت العديد من مظاهر الضعف والسوء في الأداء، منها ما يكون له في العادة انعكاس مباشر على الحياة اليومية للمواطنين، ومن أهمها الانهيار السريع لسعر صرف العملة (الليرة) وارتفاع معدلات التضخم، وقد صُنِّفت الليرة خلال الأسابيع الماضية كإحدى أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداءً على المستوى العالمي، بعد تراجعها بشكل متواصل في مواجهة الدولار الأميركي، وخسارتها نحو 26 في المئة من قيمتها منذ بداية عام 2020، ووصول سعر صرفها إلى مستويات قياسية بلغت أكثر من 8.5 ليرة لكل دولار خلال الفترة الماضية.
وفق الدراسة، فإن تراجع الليرة لم يبدأ في مطلع العام الحالي فقط، بل إنها تتبنى اتجاهاً عاماً تنازلياً منذ أبريل (نيسان) من عام 2016، عندما بلغ سعر الصرف 2.85 ليرة للدولار، وبذلك تكون قد فقدت أكثر من 66 في المئة من قيمتها على مدار السنوات الأربع الماضية.
وقد أدى تراجع قيمة الليرة إلى ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات ذات وقع صعب على مستويات المعيشة في البلاد، حيث يمثل وصول التضخم إلى مستوى 14 في المئة في ظل أزمة كورونا، مؤشراً إلى أن الاقتصاد يعاني من مشكلات معقدة، وحالة من عدم الاستقرار المالي والنقدي، لا سيما أن ظروف كورونا تسببت في تراجع معدلات التضخم في معظم دول العالم، مع تراجع مؤشرات الطلب الاستهلاكي بسبب ظروف الإغلاق الاقتصادي.
وقد بدت الآثار السلبية للأوضاع الاقتصادية في تركيا على مستويات المعيشة في البلاد في المؤشرات التي كشف عنها اتحاد نقابات العمال التركي خلال الفترة الماضية، ومنها ارتفاع حد الجوع وحد الفقر في البلاد، حيث قال الاتحاد إن حد الجوع في تركيا، الذي يشير إلى مقدار ما تنفقه أسرة مكونة من 4 أفراد من أجل الحصول على نظام غذائي صحي ومتوازن وكافٍ، يبلغ 2517 ليرة تركية (296 دولاراً). وقدَّر الاتحاد أن حد الفقر للأسر في البلاد، وصل إلى 8198 ليرة (965 دولاراً)، ويمثل هذا المبلغ تكلفة المصروفات المطلوبة للمأكل والملبس والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة وما شابه ذلك.
ووفق بيانات الاتحاد، فقد ارتفع الحد الأدنى من الإنفاق على الطعام للأسر التركية من 4 أفراد بنسبة 1.39 في المئة بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بالشهر السابق، بينما بلغت نسبة الزيادة السنوية لأسعار الطعام 15.47 في المئة، وهو ما يعكس حجم الارتفاع الكبير في تكلفة المعيشة في تركيا في الوقت الراهن، والذي إن كان يعود في جزء منه إلى الظروف الاستثنائية الناتجة من تداعيات أزمة كورونا، لكن النسبة الأكبر منه كانت بسبب الأزمة الاقتصادية الداخلية، والتي سبق الإِشارة إليه، لا سيما معدل التضخم، الذي يعكس بشكل غير مباشر الارتفاع في تكلفة المعيشة.
الرواتب لا تكفي لسد حاجات الأسر
وأظهرت تحليلات وتقارير تركية ودولية مستوى المعاناة التي تعيشها العديد من الفئات الاجتماعية في تركيا، بسبب ظروف التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، لا سيما الموظفين الحكوميين والمدرسين، والذين يعانون معضلة حقيقية بسبب بقاء دخولهم ورواتبهم من دون تغيير. وبحسب تقديرات عدة، فإن راتب كل مدرس يعمل لدى المؤسسات التعليمية الحكومية في تركيا يصل إلى نحو 4900 ليرة (623 دولاراً).
وهذا يعني أن هذا الراتب لم يعد يكفي لتغطية تكلفة المصروفات الضرورية المطلوبة لتأمين المأكل والملبس والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة وغيرها، والذي يمثله حد الفقر للأسر في البلاد. وبعبارة أخرى، فإن معظم المدرسين العاملين في المؤسسات التعليمية الحكومية في تركيا باتوا الآن يعيشون تحت خط الفقر، الذي حدده اتحاد نقابات العمال التركي في تقريره الأخير.
وتشير المعطيات القائمة إلى أن الظروف التي يمر بها الاقتصاد التركي الآن تدفع المزيد من الأتراك يوماً بعد يوم إلى الانزلاق تحت خط الفقر.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر له وقعه الصعب على الأتراك أنفسهم ومستويات معيشتهم ومعاناتهم اليومية، فستكون له أيضاً انعكاساته السلبية على فرص التعافي الاقتصادي التركي خلال الفترات المقبلة، لا سيما أن تراجع مستويات المعيشة على هذا النحو سيؤدي إلى تراجع القدرات الشرائية والطلب الاستهلاكي للأتراك، وهو ما سيضيق هامش النمو المتاح أمام الاقتصاد التركي.