رغم أنها مدرسة مصنفة ضمن الأرقى والأعلى تكلفة من حيث المصروفات، ما يعني أن طلابها وطالباتها من أبناء طبقة على درجة ما من الوعي، أو هكذا يفترض، فقد وقع ما لم يحدث في الحسبان بعدما توترت الأجواء المدرسية بسبب وقوع أحد الطلاب ضحية لتنمر إلكتروني، إذ صنع أحد زملائه صورة مفبركة له ولوالدته ونشرها على "فيسبوك" ليطلع عليها الجميع، الأمر نفسه تكرر مع طالبة تنمر بها صديقها ونشر لها صورة مفبركة في أوضاع غير لائقة، انتقاماً منها وتأديباً لها بعدما قررت أن تنهي علاقتها به.
إنه التنمر الإلكتروني الذي ظن كثيرون في المنطقة العربية أنه يحدث في الغرب فقط، حيث بلاد بعيدة تعيش في كنف التكنولوجيا الحديثة، وحيث الأسر لا تقوم بدورها الشرقي التقليدي من حيث الرعاية والرقابة والتقويم والإصلاح.
فستان ومساحق تجميل لطفل
تقول منى الغمري، 40 عاماً، "إنها ظلت تعتقد بأن التربص بالآخرين على شبكة الإنترنت سمة من سمات الحياة في بلاد الغرب. كنت أعتقد أننا، بحكم اختلاف العادات والتقاليد، والأعراف وقواعد السلوكيات، لن نتعرض لمثل هذه المضايقات. ظننتها ظواهر قد نتابعها أو نقرأ ونسمع عنها، لكنها لا تحدث لنا إلى أن تعرض ابني المراهق للتنمر الإلكتروني في العام الدراسي الماضي".
تحكي الغمري عن ابنها ياسين، المعروف بهدوئه وحبه للموسيقى وميله لكتابة الشعر، تقول: "إن زملاءه دأبوا على النظر له باعتباره مختلفا لمجرد أنه ليس عنيفاً في لعبه، ولا يحب كرة القدم، وينصرف عن التجمعات التي دأب أفرادها على استخدام الكلمات النابية كنوع من إثبات الرجولة، بحسب مفهومهم، ومن ثم اعتبروا ابني تنقصه الرجولة، وبدأوا يشبهونه بالفتيات ويسخرون منه. وقد اعتبرت الأمر تافها ولا يستحق التدخل إلى أن اكتشفت أنهم يضعون صوره على "فيسبوك" ويخضعونها لتغييرات فيبدو مرتديًا فستانا، أو واضعا مساحيق تجميل مع كتابة عبارات مسيئة له".
الإساءة الإلكترونية لأشخاص، لا سيما المراهقين والمراهقات، أو ما يسمى بالتنمر الإلكتروني ظل حتى الأمس القريب خطرا يبدو لقاطني الدول العربية بعيدا عنهم باعتباره شأناً يتعلق بالدول الغربية. ولم يدرك كثيرون أن العصر الرقمي كسر الحواجز الجغرافية وتعد بالمجتمعات إلى الحدود الأممية. فكما فتحت الشبكة العنكبوتية آفاق التعلم والبحث والتجوال دون حدود، فتحت كذلك آفاق العنف والإساءة والتنمر دون حدود.
اليونيسف يدق أجراس الخطر
خبراء اليونيسف "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" من اختصاصيي العنف الرقمي لفتوا انتباه العالم في تقرير صادر تحت عنوان "العنف في عالم رقمي" (نهاية عام 2017) إلى مكافحة التنمر الإلكتروني المتربص بكل الصغار في كل أنحاء العالم. فمن صبي كاد ينتهي به الأمر إلى الانتحار بسبب التنمر الإلكتروني الملاحق له أينما ذهب، إلى فتاة لم يتعد عمرها 14 عاماً يلاحقها ملف إلكتروني أنشأه لها صديق سابق يحوي صورا عارية، وليس انتهاءً بفتاة في الثامنة من عمرها تم إجبارها على أداء أعمال جنسية وبثها مباشرة بواسطة جار يدير موقعاً على الإنترنت متخصصاً في الاعتداءات الجنسية على الأطفال، يفتح العالم ملفاً مخيفاً من ملفات العنف ويستقبل مرحلة مرعبة من تاريخ التنمر.
التنمر الإلكتروني
"مركز أبحاث التنمر الإلكتروني" يعرّف التنمر الإلكتروني بأنه الضرر المتعمد والمتكرر الذي يتم إحداثه من خلال استخدام أجهزة الحاسب والهواتف المحمولة وغيرها من الأجهزة الإلكترونية. وعلى الرغم من أن التنمر في حد ذاته ليس ظاهرة جديدة أو وليدة الأمس، فإن التنمر التقليدي حيث التربص بطفل في ملعب المدرسة، أو مضايقة طلاب لزميل لهم بكلمات أو ضرب أو ما شابه بات قديما، ولم يعد بإمكان الضحية الهروب منه عن طريق العودة إلى البيت أو تجنب مخالطة الآخرين. ففي الفضاء الإلكتروني، لا ملاذ آمناً للضحية طالما يحمل هاتفه المحمول أو يستخدم جهاز الكمبيوتر الشخصي.
ويوضح "مركز أبحاث التنمر الإلكتروني" أن الاتصال بشبكة الإنترنت يعني أن النصوص ورسائل البريد الإلكتروني والدردشات والمشاركات يمكن أن تصل للمستخدم دون استئذان أو سابق إنذار. وهذا التنمر الإلكتروني يواجهه الصغار في أي وقت وطيلة أيام الأسبوع على مدار العام. والمتنمر يمكنه أن يختبئ وراء ملف شخصي وهمي، أو ينتحل هوية شخص آخر، ومن ثم وبنقرة واحدة، ينشر المتنمر صورا ً عنيفة أو مؤذية أو مهينة. والأدهى من ذلك، أنه بمجرد دخول هذه الصور حيز الإعجاب والمشاركة "اللايك والشير"، يصبح حذفها وتعافي أصحابها من آثارها أمراً بالغ الصعوبة.
"أنا ضد التنمر"
جدة ياسين المراهق المتنمر به إلكترونياً في المدرسة ظلت تعارض ابنتها (منى الغمري) حين قررت أن تصعّد الأمر وتلجأ إلى المدرسة وطبيب نفسي. "شوية لعب عيال. أنت بتكبري الموضوع أكتر من اللازم. دعيه يتصرف بنفسه مع زملائه دون تدخل منك".
لكن تدخل الأم كان ضرورياً، لا سيما أن فكرة التنمر من الأصل تصادف تجاهلاً وإنكاراً شأنها شأن التحرش حتى سنوات قليلة مضت.
"اليونيسف"، بالتعاون مع المجلس القومي للطفولة والأمومة والاتحاد الأوروبي في القاهرة، دشنت قبل أشهر حملة ضخمة تحت عنوان "أنا ضد التنمر"، الغرض منها توعية الصغار والأهل والمعلمين بتطور التنمر من أشكاله التقليدية في فناء المدرسة وفي الطريق إلى البيت وفي النادي وغيره ووصوله إلى الفضاء الإلكتروني، وهو ما يضاعف خطورة الضرر الواقع على المتنمر به لحدوث التنمر في الخفاء.
تداعيات ضحايا التنمر
المعلومات الواردة من "اليونيسف" تشير إلى أنه من المرجح أن يلجأ ضحايا التنمر الإلكتروني إلى الكحول والمخدرات، وأن يتغيبوا عن المدارس، بل يصبحوا ضحايا للتنمر التقليدي كذلك. كما يتدنى مستوى المتنمر بهم في المدرسة ويصبحون أقل اعتداداً بأنفسهم، ويبدأون في التعرض لمشكلات صحية أكثر من غيرهم. ويصل الأمر ببعضهم إلى درجة التفكير في، أو الإقبال على الانتحار.
"إيمان"، ابنة الـ19 عاماً، الطالبة في معهد التمريض، التي انتحرت بإلقاء نفسها من شرفة بيتها في حي كرموز في مدينة الإسكندرية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، كانت ضحية تنمر زميلاتها ومشرفات المعهد بها بعدما عايروها بقولهم (أنت سوداء البشرة وشعرك سيئ، ولن يتزوجك أحد). صحيح أن التنمر كان وجهاً لوجه، أي لم يكن إلكترونياً، لكنه أفضى إلى انتحار فتاة في مقتبل العمر.
صغار السن والتنمر
ممثل اليونيسف في مصر السيد برونو مايس يقول: "إن واحداً من كل ثلاثة من مستخدمي الإنترنت طفل. هذه الملايين من الصغار من مستخدمي الشبكة العنكبوتية يستفيدون من ثروة المنافع والفرص التي تتيحها الشبكة، لكنهم أيضاً يتعرضون للأخطار والأذى. يشير مايس إلى أن "أعداداً كبيرة من الأطفال والمراهقين والشباب تتعرض للتنمر الإلكتروني، وهو ما يؤدّي إلى عواقب نفسية وجسدية وخيمة".
خط نجدة الطفل
الحد من التنمر – سواء الإلكتروني أو التقليدي- الذي ظن كثيرون إنه سمة من سمات الغرب ولا تخص العالم العربي لا يمر إلا من بوابة التوعية والمجاهرة بالتعرض للتنمر. المجلس القومي للطفولة والأمومة أضاف التنمر الإلكتروني ضمن المشكلات التي يتدرب مقدمو خدمة خط نجدة الطفل 16000 التي يخصصها لتلقي مشكلات الأطفال. وقد تم تدريب مقدمي الخدمة على سبل مواجهة التنمر الإلكتروني، وذلك عبر تشجيع الحوار وتوفير المعرفة وحض الأطفال وأسرهم على الحديث عن المشكلة.
الدكتورة عزة العشماوي، الأمين العام للمجلس القومي للطفولة والأمومة، أشارت إلى أن الخط – ومنذ حملة "أنا ضد التنمر" يتلقى العديد من الاتصالات من قبل الأطفال تفيد بتعرضهم للتنمر من قبل أقرانهم في المدارس والنوادي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
العشماوي نوهت إلى أن عدداً من المتصلين من الأطفال المتنمر بهم قدم توصيات لكيفية مواجهة التنمر الإلكتروني. وأضافت أن الغالبية العظمى من الاتصالات التي تلقاها خط نجدة الطفل والتي تفيد بتعرضهم للتنمر تشير إلى أن المدرسة هي أكثر الأماكن التي يتعرض فيها الأطفال للتنمر، بنسبة 70 في المئة. وترى العشماوي أنه كلما انخفض عمر الطفل المستخدم للإنترنت، كلما زادت مسؤولية التأكد من حمايته من التنمر الإلكتروني.
يشار أن دراسة أجراها كل من المجلس القومي للطفولة والأمومة و"اليونيسف" وشملت ثلاث محافظات مصرية أثبتت أن أعلى مستوى من العنف يواجه الأطفال يحدث في البيت، تليه المدرسة. من جهة أخرى تدعم وزارة التربية والتعليم المصرية الحملة القومية للتوعية بالتنمر، لا سيما في ظل عملية تطوير وإصلاح التعليم الشاملة التي تخوضها مصر، والتي تجعل من توفير بيئة تعليمية آمنة وممتعة للأطفال أولوية وطنية.
المؤكد أن الإنترنت ليست خيراً مطلقاً أو شراً خالصاً. والمؤكد أيضاً أن كل مشكلة ولها حل، وكل عنف وله وقاية، وكل تنمر وله وسيلة للتوعية والمواجهة. ربما تكون طبيعة الشبكة العنكبوتية بخيوطها المتشابكة قد زادت من تعقد الحلول وصعوبتها، لكن العقل البشري الذي ابتكر خيوط العنكبوت قادرة على ابتكار الخلاص من تشابكها.