كثر من كبار المخرجين السينمائيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين اعترفوا بنوع من البنوّة تجاه الكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف بشكل أو آخر. بل إن سينمائيين كبيرين من طينة إنغمار برغمان ووودي آلن كانا أكثر تحديداً حين قال الأول أنه يدين بالكثير إلى مسرحية "الشقيقات الثلاث" لتشيخوف ولا سيما بالنسبة إلى تحفته السينمائية التي لا تضاهى، "همس وصراخ"، فيما لم يتوقف الثاني عن القول إن "حنة وأخواتها" الذي يعتبر واحداً من أقوى أفلامه وربما أكثرها ذاتية، إنما هو الوليد الشرعي للمسرحية التشيخوفية نفسها. ونعرف طبعاً أن برغمان وآلن لم يكونا الوحيديْن بين مبدعي الأزمنة الحديثة الذين نظروا إلى تشيخوف بوصفه مصدر إلهامهم على قدم المساواة مع الإلهام الذي قدمته لهم تجاربهم الشخصية أو حتى مجتمعاتهم.
كيف ينظر الفنان إلى مجتمعه؟
بالنسبة إليهم كان تشيخوف، وعلى أقل تعديل، المعلم الذي علمهم كيف ينظرون إلى تلك المجتمعات وإلى تلك التجارب كعجينة يشتغلون عليها لصياغة إبداعاتهم. ولعل برغمان هو الذي قال يوماً إنه لو قُيّض لتشيخوف أن يعيش في زمن السينما لكان سينمائياً كبيراً إضافة إلى كونه مسرحياً لامعاً. وفي هذه "الإزدواجية" من المؤكد أن برغمان كان يرى في نفسه امتداداً للمعلم الروسي. ويقيناً أن "الشقيقات الثلاث" لعبت دوراً أساسياً في ذلك "التطابق" بين الاثنين.
وإذا كان قد قيل دائماً أن ثمة من المصادفات تلك التي تلعب في الحياة دوراً استثنائياً، لا بد من تأمل هذا القول في ما يتعلق بالمصادفة المتعلقة بظهور "الشقيقات الثلاث" تلك المسرحية التي افتتحت القرن العشرين بالمعني الحرفي لا المجازي فقط للكلمة.
فالمسرحية التي ستكون ما قبل الأخيرة بين أعمال تشيخوف والتي كتبها فيما كان القرن التاسع عشر يتلاشى تماماً، قُدّمت على خشبة مسرح الفن في موسكو في اليوم الأخير من الشهر الأول للقرن الجديد، أي بالتحديد في الحادي والثلاثين من يناير (كانون الثاني) من العام 1901. لتحمل الرقم 15 بين تلك المسرحيات الرائعة التي لم تحمل توقيع تشيخوف فقط، بل حملت كل ما كان قد تولد لديه خلال نهايات القرن السابق من أفكار ومواقف وتعبيرات عن علاقات اجتماعية ناهيك بالتطلعات نحو آفاق جديدة وبخاصة في مجال التمازج مع التطورات الاجتماعية وتطور الذهنيات لدى أجيال جديدة من نساء لم تعد المصائر المتروكة لهنّ ترضيهنّ.
بهذه المسرحية لم يكن تشيخوف وفرقته في "مسرح الفن" يفتتحان زمناً جديداً فقط، بل كانا يفتتحان فكراً جديداً، من هنا ولئن كان موعد العرض يتطابق مع تلك "القطيعة" الزمنية البالغة الأهمية، فإنه كان يتطابق أكثر مع قطيعة في الذهنيات تسيطر على جو المسرحية لتنبني عليها أخلاقيات وذهنيات جديدة تنتمي إلى العصور المقبلة من دون أن يغيب عنها ما يسم العصور المنقضية.
التأسيس لعالم جديد
من هنا يمكننا القول إنه، على الرغم من أن تشيخوف كتب القسم الأكبر من مسرحياته خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فإنه يعتبر الوالد الشرعي للمسرح الواقعي والحديث في القرن العشرين، إلى جانب هنريك إبسن وأوغست سترندبرغ. وبالتالي فإن التقديم الأول، في ذلك اليوم الحاسم لتلك التي سوف تعتبر واحدة من أهم مسرحياته، "الشقيقات الثلاث"، على خشبة "مسرح الفن" في موسكو، لا يمكن اعتباره حدثاً مسرحياً عادياً، بل تأسيسياً، لأن هذه المسرحية التي لا تزال تقدم وتستوحى حتى يومنا هذا، تعتبر اللبنة الأولى التي أسست لحداثة المسرح والفن عموماً في القرن العشرين، ليس فقط في الشكل والأسلوب المسرحيين، بل وبخاصة من ناحية الموضوع، فلئن كانت "الشقيقات الثلاث" تنتهي على "الحكمة" السلبية القائلة: "إن الإذعان إنما هو فضيلة البؤس"، فإنه سيكون نصيب الجزء الأكبر من شخصيات الأدب والفن في القرن العشرين، سواء حملتها أعمال كافكا (الروائية) أو أنطونيوني (السينمائية) أو كامو وتوماس مان وغيرهم من كبار عبّروا عن هزيمة الإنسان في هذا الزمن.
إذن، في ذلك المساء البارد في موسكو، عرض مسرح الفن للمرة الأولى "الشقيقات الثلاث" التي ستدور حول العالم وتترجم إلى عشرات اللغات وتقتبس عشرات المرات في أفلام ومسرحيات، وتطبع بطابعها زمناً كاملاً. فما الذي تقوله تلك المسرحية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صورة لمجتمع ينهار
إنها، وبكل بساطة، تقول ذلك القلق والتدهور اللذين أصابا الحياة الاجتماعية الروسية عند نهايات القرن التاسع عشر وتواصلا بدايات القرن العشرين، وذلك من خلال حكاية ثلاث شقيقات يعشن منزويات في بلادة الريف الروسي. كبيرتهنّ أولغا، التي امتهنت التدريس تبدو ناقمة على وضعها تريد الخروج منه مهما كان الثمن، لكنها عاجزة عن فعل أي شيء يوصلها إلى خلاصها، والوسطى ماشا أتعسها زواج غير ناجح، فعاشت مكتئبة تلتجئ في لحظات اليأس المطلق إلى حلم يزيدها حزناً وكآبة. أما الصغرى إيرينا، فإنها الوحيدة التي تبدو لنا حيوية راغبة في فعل شيء مفيد، لكن خيباتها تتلاحق من دون هوادة.
ليس للأخوات الثلاث، معاً، سوى حلم مشترك وحيد: الذهاب إلى موسكو من دون عودة إلى ذلك الريف الذي يمزقهنّ ضجره بشكل لا يطاق. وفجأة يلوح لهنّ الأمل على شكل فرقة عسكرية تأتي لترابط في المنطقة. مع مجيء الفرقة تبدو الأمور كلها وقد تبدلت بالنسبة إلى الشقيقات، حيث تأتي علاقات يقمنها مع عدد من الضباط لتعطيهنّ أملاً ومذاقاً لحياة جديدة، ولكن في الوقت نفسه الذي تبدأ الشقيقات بمداعبة الأمل، حيث يتقدم ضابط لخطبة الصغرى، وآخر يشجع الكبرى على ترك التعليم الذي تمقته، وفي الوقت الذي تغرم الوسطى بضابط مدفعية، تصدر الأوامر فجأة للفرقة العسكرية بمغادرة المواقع التي تمركزت فيها. وهكذا تترك الفرقة المنطقة، وتعود الشقيقات الثلاث إلى وحدتهنّ وقد زادت حدّتها: أولغا تعود إلى التدريس وإلى يأسها، ماشا تكتشف أن غرامها لم يكن أكثر من سراب، أما إيرينا، التي يقتل خطيبها بشكل مباغت، فتحبط نهائياً وتشعر أن العالم كله قد انتهى بالنسبة إليها. وتجد الشقيقات الثلاث أنفسهنّ أمام الحقيقة القاتلة: بعد كل شيء لن يتمكنّ أبداً من الذهاب إلى موسكو، ولن يتمكنّ أبداً من مبارحة ريفهنّ... وهنا لا يعود أمامهنّ سوى الإذعان للمصير، وربما سيجدن فيه وفي اليأس المصاحب له نوعاً من العزاء، لأن اليأس المطلق، أسهل من الأمل الكاذب... هكذا تخلد الشقيقات إلى ذلك اليأس الذي يحمل في طياته أملاً في حياة جديدة... ذات يوم.
من العائلة إلى الشعب
منذ التقديم الأول لـ "الشقيقات الثلاث" أدرك النقّاد، كما أدرك جمهور النخبة، الذي كان جمهور "مسرح الفن" في موسكو، في ذلك الحين، أنهم ليسوا هنا إزاء "دراما عائلية" بل إزاء مأساة شعب تنرسّم أمام أعينهم. كان واضحاً بالنسبة إليهم أن تشيخوف إنما يرسم هنا، عبر تلك المسرحية، البريئة في الظاهر، صورة لمسار شعب وما آل إليه مصيره، ولقد وصل ذلك الوضوح إلى ذروته في عبارة في المسرحية تقول: "يبدو، في نهاية الأمر، أن هناك إعصاراً يتكوّن، إعصار سوف يكون من شأنه حين يهبّ، أن يكنس في طريقه كل الكسل واللامبالاة والضجر الذي تعيش روسيا في أحضانه منذ زمن بعيد... يقيناً إنه لن يمضي ربع قرن مقبل إلا وسيكون كل إنسان قد بدأ يفيق من وضعه ليعمل من أجل التغيير...".
من هنا، في الوقت الذي اعتبرت "الشقيقات الثلاث" صورة مأساة شعب، اعتبرت نبوءة تحاول أن تطلق من قلب الإذعان واليأس صورة أقل قتامة لزمن مقبل. وكان هذا كافياً لجعل تشيخوف (1860 – 1904) يرسّخ موقعه كواحد من أعظم كتّاب روسيا الواقعيين في ذلك الحين.