تتردد في كل العالم هذا الاسبوع أصداء خبر قيام المملكة المتحدة بالموافقة على اعتماد لقاح "فايزر\ بيونتيك" Pfizer/BioNTech ضد فيروس كورونا. ووسط هذه الأجواء لا تنفك الضغوط تتزايد على "إدارة الأغذية والأدوية" في الولايات المتحدة FDA، من أجل تأمين اللقاح للأميركيين بالسرعة المطلوبة. وتمثّلُ دمغة الموافقة البريطانيّة على قوارير اللقاح، بالنسبة لملايين الأشخاص، وميض ضوء في آخر نفق مظلم. إذ إن ملايين العاملين في قطاع الصحة باتوا اليوم على قاب قوسين أو أدنى من الإنهاك الكامل، ووجوههم تزداد امتقاعاً من نوبة عمل إلى أخرى، جراء ارتداء "مستلزمات الوقاية الشخصية" PPE.
كما يعجز العالقون منهم في دور العناية منذ أشهر متواصلة، وهم كثر، من رؤية أحبائهم. هذا ويجري تسريح العمال، ويقف أصحاب العمل حائرين وهم يعاينون بأم أعينهم غرق مشاريعهم ومصالحهم. ويشكو عدد لا يحصى من الناس من وَهَن ما بعد الفيروس. وجميع من ذُكر من هؤلاء يشهدون تدهور صحتهم النفسية يوماً إثر يوم في ظل تدابير الإغلاق والمباعدة الاجتماعية. ويعتري الخوف الأفراد من كيفية تأمين إيجار السكن. وكل هذا قد يقال من دون الإتيان على ذكر العائلات المفجوعة بحبيب من أحبائها.
من هنا، فإن اللقاح اليوم يمثّل رحمة لكثيرين، لكن ليس للجميع. إذ إن الأخبار عن نظريات المؤامرة تتفشى، بدءاً من حكايات الرقائق الدقيقة [التي تزرع في الأجسام] إلى الاختبارات السيكولوجية (النفسية). ادخلوا إلى صفحاتكم على مواقع التواصل الاجتماعي في هذه اللحظات وقد تقعون على اسم مطول لدواء جرى إيقافه أو حظره، إلى جانب صور لأطفال ولدوا بأذرع صغيرة [مشوهين جراء تناول أهلهم الدواء]. ناهيك بحقيقة أن الـ"ثاليدومايد" [دواء بيع تحت مسمى "كونترغان" و"تالوميد" وغيرهما استخدم كعلاج لعدد من أمراض تصيب الحوامل] لم يكن يوماً لقاحاً، وهو أوقف عن الاستخدام سنة 1961، وبعد ستين عاماً من ذلك الكابوس، شهدت التجارب الطبية العيادية والدوائية تطوراً – تخيلوا ذلك.
وناهيكم أيضاً بحقيقة أن انتشار اللقاحات لعب دوراً أساسياً في الصحة والرفاه اللتين تتمتّع بهما الدول الغربية، وأن ما يقدر بـ 1.5 مليون شخص في العالم يموتون سنوياً جراء أمراض يمكن التحصن ضدها عبر لقاح. لذا، فإن اللقاحات باتت أكثر فأكثر ميادين معارك في حروب الثقافات، كما أن أخبارها تمثّل موادّ في سوق المعلومات المضللة.
لذا، فإن صفة "شركات الدواء السيئة" Big Pharma Baddy تُستبدل اليوم بتوصيف مقابل، هو "شركات الدواء الحنونة" Big Pharma Daddy. وكل نقد يوجه لشركات إنتاج الدواء العملاقة، بات كأنه يسم مطلقه بوسم المناهض لكل خير، خصوصاً إذ تتصدر الجهود التي تبذلها راهناً الشركات المذكورة موقع الصدارة ضمن جهود إنقاذ البشرية من الجائحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن في الحقيقة، وإن كنت ترى شوائب في أداء شركات صناعة الدواء، فذلك لا يعني بالضرورة أنك من مُعادي التلقيح. إذ ثمة الكثير الكثير من الشكاوى والدعاوى المبررة ضد ممارسات تلك الشركات، لا علاقة لها بالدراسات الزائفة حول اللقاح ومرض التوحد.
في الأسابيع القليلة الفائتة وحدها، شهدنا اقرار شركة "بورديو فارما" Purdue Pharma بمسؤوليتها عن اتهامات جرمية متصلة بعقار الـ"أوكسيكونتين" oxycontin الذي أنتجته، والمستخرج من الأفيون. وقد اعترفت "بورديو" في هذا الإطار بتآمرها الاحتيالي على مسؤولين في الإدارة الأميركية، وتوفيرها رشاوى غير مشروعة لأطباء، وبيعها سجلات وبيانات صحية إلكترونية. وهي أقدمت على فعل كل هذا، فقط كي تستمر عمليات وصف الدواء المذكور (أوكسيكونتين)، فيما يموت الأميركيون، ويرزح الفقراء تحت أعباء جائحة من الأفيون. وتبقى شركة "بورديو" في المقابل متلكئة عن دفع مليارات الدولارات التي تدين بها، كعقوبات على ما اقترفته.
إذن، أين موقع شركة "فايزر" من كل هذا، كونها تقف اليوم وراء اللقاح الذي طال انتظاره وأُطنب في مديحه لمواجهة كورونا؟
في الواقع لا يفصلنا راهناً أكثر من عقد سنين عن قيام "فايزر" وشركة "فارماسيا أند أبجون" Pharmacia & Upjohn التابعة لها، بالموافقة على تسديد مبلغ 2.3 مليار دولار أميركي كتسوية لعملية احتيال جرمية ارتكبتها، توصلت إليها "فايزر" مع وزارة العدل الأميركية، بعدما قامت الشركة المذكورة بترويج غير قانوني لدواء "بيكسترا" Bextra الذي أنتجته وأوقِف في ما بعد، سنة 2005، بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة. وقد مثّلت في ذلك الوقت التسوية الأكبر في تاريخ وزارة العدل الأميركية لعملية تحايل تتعلق بالصحة، لأن "فايزر"، كما ذكرت الوزارة في بيان لها، "قامت بالترويج لبيع "بيكسترا" لاستخدامات عدة وبمعدل جرعات مختلفة، بعدما كانت "إدارة الأغذية والأدوية" (الأميركية) رفضت المصادقة عليه بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة". وهذا الكلام صدر من وزارة العدل الأميركية، وليس مجرد أخبار في موقع Blahblahnaturalremediesdiscoverthetruth.org (المعادي للأدوية).
قامت لوبيات [تكتلات أو مجموعات ضغط] صانعي الأدوية بتصعيد استهدافها للسياسيين وأصحاب المبادرات الذين يهتمون بوضع ضوابط تتعلق بالصحة، ومن ضمن هذه الأخيرة "قانون الرعاية الصحية الميسرة" Affordable Care Act [معروف بقانون أوباما كير]. وبالفعل، فإن دراسة أكاديمية نشرت في مجلة "جاما للطب الداخلي" JAMA Internal Medicine، قامت بتحليل بيانات متوفرة للجمهور متعلقة بحملات التبرع في الولايات المتحدة وبالتكتلات التي شكلها أقطاب إنتاج المستحضرات الطبية وشركات الدواء على مدى العقدين المنصرمين، توصّلت فيها إلى أن الأنشطة المذكورة مثّلت أكبر مصدر للإنفاق على المستوى الفيدرالي. إذ إن الأميركيين ينفقون على عقاقير الوصفات الطبية أكثر من أي شعب آخر في العالم. وتشير الأرقام إلى أنه، حتى قبل كوفيد وكل ما رافقه من مظاهر تسريح للموظفين والعمال، فإن معدل واحد من كل أربعة مواطنين أميركيين وجد صعوبة في شراء الأدوية. على الرغم من حقيقة أن دافع الضرائب الأميركي يستثمر في الأبحاث المبكرة بمبالغ ضخمة.
جميعنا يعرف حكايات الناس المرضى الذين أجبروا على الاقتصاد في جرعات الإنسولين التي يأخذونها، ونعرف أيضاً معاناة الأميركيين من ارتفاع أسعار الأدوية التي يعتمدون عليها، بدءاً من الـ"إيبيبينس" EpiPens [حقن الحساسية] وصولاً إلى أدوية وعلاجات الإيدز HIV. وعندما يحصل هذا، فإن شركات التأمين والمستشفيات غالباً ما تتوقف عن الدفع لهم. يمكنني في هذا الإطار الاستمرار والاستفاضة في الحديث، لكن وقت العالم ضيق اليوم لتوثيق المعاناة التي يتسبب بها نظام الرعاية الصحية الأميركي، المبعثر والاستغلالي.
وكان ناشطون ومطلقو حملات (وبعض السياسيين) حققوا على مدى العقدين الماضيين تقدماً مهماً من ناحية الإضاءة على أوجه الظلم والإجحاف هذه. لكن الطريق أمامنا تبقى طويلة، والجهود التي تبذلها تكتلات صانعي الدواء تمثّل حجر عثرة كبير، يعيق تقدمنا. وأمام ما يسود في أوساط العديد من الشخصيات العامة هذه الأيام من مواقف لسان حالها "عاشت شركات الدواء الكبرى! وليشقَ منتقدوها!" فإنه من الممكن أيضاً، لا بل من الضروري بالأحرى، أن نُحيي لقاح كورونا ونرحب به، لكن من دون تمجيد تلك الشركات وتجاوز ما اقترفته من خطايا لا تغتفر.
الأميركيون اليوم بحاجة ماسة إلى نظام رعاية صحية أفضل. وكي يحققوا ذلك عليهم إيلاء اهتمام خاص لإصلاح طريقة عمل شركات التأمين، وشركات صناعة الدواء الكبرى. أجل، هذه الأخيرة بعينها، على الرغم من أنها اليوم مخلّصنا العظيم من كوفيد -19.
على أن الإصلاح المنشود يغدو مستحيلاً إن قمنا، وبدافع الامتنان، بجعل انتقاد قطاع إنتاج الدواء أمراً غير مشروع. إذ إن كوفيد- 19 يقتل، صحيح، لكن الرعاية الصحية الباهظة الثمن [التي لا طاقة لنا بتحمل كلفتها] تقتل أيضاً هي الأخرى.
© The Independent