حتى وإن كان اسم الكاتب البريطاني إيان فليمنغ مبتدع شخصية جيمس بوند لا يحتاج عادة إلى مناسبة كي يعود إلى الواجهة، فإن مناسبات ثلاث تتضافر اليوم كي تعيده. فمن جهة هناك رحيل شون كونري، الفنان الكبير الذي انبنت شهرته على كونه الأول والافضل بين الذين لعبوا الشخصية على الشاشة منذ أكثر من 50 عاماً، وفي العدد الأكبر من الأفلام المقتبسة عن روايات فيلمنغ إلى درجة أنه يعتبر بالتأكيد عميد الجيمس بوندات. ومن ناحية ثانية هناك العودة إلى التساؤل عن مصير كتاب وضعه فليمنغ عن الكويت قبل سنوات قليلة من رحيله واختفى. ومن ناحية ثالثة هناك الفيلم الأخير الذي يدور حول جيمس بوند والذي ستعرضه مدن كثيرة على شبكة "نتفليكس" إذ لم تفعل ذلك حتى الآن، خلال أعياد الميلاد المقبلة، ما يتواكب كالعادة مع ضجة ما بعدها ضجة.
الكاتب بدل عن ضائع
على الرغم من أن الفيلم الأحدث بين سلسلة أفلام عميل صاحبة الجلالة البريطانية الأشهر، جيمس بوند، لم يأت وللمرة الثالثة على التوالي خلال السنوات الأخيرة، مأخوذاً مباشرة عن رواية كتبها إيان فليمنغ، مبتدع الشخصية وصاحب الروايات التي اقتبست حتى الآن في أكثر من 20 فيلماً، فإنه حمل مع هذا نكهة فليمنغ وجعل البطولة معقودة للجاسوس الأشهر في عالم القرن الـ 20، مما جعل اسم فيلمنغ يعود إلى الواجهة من جديد، ويعاد التذكير بحياته وسيرته وفنه الأدبي. منذ البداية لا بد من القول إن كتّاب روايات التجسس خلال النصف الثاني من القرن الـ 20 أجمعوا ومنذ صدور الرواية الأولى لفليمنغ، على أن من المستحيل أن تكون شخصية جيمس بوند، شخصية مقتبسة من أي واقع كان، إذ إن القرن الـ 20 لم يعرف في تاريخه جاسوساً له هذه المواصفات. ولقد أثنى المؤرخون والباحثون على هذا التأكيد، من دون أن يصل أي منهم إلى القول إن العالم الذي رسمه فليمنغ في روايته الأولى، ثم في رواياته التالية، يؤكد أنه في الأصل لم يعرف عن هذا العالم شيئاً. وذلك، طبعاً، لأن هؤلاء المؤرخين والباحثين يعرفون عن يقين أن العكس هو الصحيح. فليمنغ كان يعرف عالم الجاسوسية، ولا سيما الجاسوسية الإنجليزية حقاً، لأنه كان منتمياً إليها طوال عقود من حياته، إذ إنه تحت غطاء كونه صحافياً أول الأمر، ثم كاتباً بعد ذلك، كان في الحقيقة يعمل في مناطق عدة من العالم لحساب أجهزة الاستخبارات البريطانية. وكان ذلك، تحديداً، في ذلك الزمن الذي كانت فيه هذه الأجهزة، بخاصة من أجل التصدي للشيوعية خلال الحرب الباردة، بل قبل ذلك، تجند الصحافيين وخريجي الجامعات ساعية إلى خلق وسط استخباراتي جديد. ولعل وضع قائمة بأسماء كتّاب ومثقفين اشتغلوا مع تلك الأجهزة، سواء بقوا معها حتى النهاية أم استغلوا اتصالهم معها للعمل في الوقت نفسه مع الاستخبارات السوفياتية، يكفي لأخذ فكرة عن هذا الأمر. فمن سامرست موم إلى غراهام غرين، ومن إيفلن فو إلى إيان فليمنغ، إلى لورانس داريل وأنطوني بارغس، عمل كل واحد من هؤلاء وغيرهم لحقبة طويلة أو قصيرة من حياته في خدمة مخابرات صاحبة الجلالة البريطانية. وهؤلاء بقوا، على الأرجح، مخلصين لهذه الأجهزة ولم يخونوا أوطانهم، وفي المقابل كان هناك عدد لا بأس به من كبار المثقفين انضموا إلى المخابرات البريطانية، لكنهم خانوها لحساب منافستها السوفياتية، وعلى رأس هؤلاء جامعيو حلقة كامبردج، من غاي بارغس إلى أنطوني بلانت وكرينكروس وماكلين، ثم شيخهم جميعاً كيم فيلبي.
نضالهم وخيباتهم
إذاً، كان إيان فيلمنغ جزءاً من هذا العالم، مما يعني أنه كان يعرف جيداً حقيقة "نضال" العملاء وخيباتهم وتعبهم والجحود الذي كان مكافأتهم الوحيدة في نهاية الأمر. ونعرف أن جون لوكاريه، منذ "الجاسوس الذي أتى من الصقيع" وحتى آخر رواياته، كان أفضل وأعمق من عبّر عن هذا كله. إذاً لماذا أتى جاسوس إيان فيلمنغ، جيمس بوند، مختلفاً؟ ربما يكون الجواب أن مخيلة فليمنغ وحسه التجاري والشعبي، وتتبعه لحياة وتفضيلات الناس (الجمهور العريض)، وحبه للسينما ومعرفته بمدى فاعلية صورتها والأحلام التي تبنيها في أذهان الناس، كل هذا مكنه من أن يرى أن النجاح الكبير لا يمكنه أن يكون من نصيب جاسوس حقيقي، بل من نصيب جاسوس متخيل، جاسوس تتجسد فيه أحلام النجاح والحياة المرفهة، واستتباب الأمر للتكنولوجيا على حساب الذكاء، والولع بالشراب والقمار والنساء والأجهزة الحديثة.
بالنسبة إلى فليمنغ، كان يمكن المراهنة على هذا كله لخلق جاسوس جديد يدغدغ الأحلام، مبعداً الناس حقاً عن عالم العملاء الحقيقيين، الذي لا يمكنه أن يجتذب إلا المتفرجين الجديين وكانوا في رأيه قلة! في رأيه؟ ربما، لكن التجارب الملموسة أثبتت أنه كان على حق. وأثبتت مفارقة لا بد من التوقف عندها: ككتب، تبيع روايات لوكاريه وغرين، أفضل وأطول كثيراً مما تبيع روايات فليمنغ. أما في السينما فالأمر مختلف، إذ يُقبل عشرات الألوف على أفلام مأخوذة من لوكاريه، وربما تنال هذه الأفلام أوسكارات وثناء النقاد. لكن مئات ملايين الدولارات تذهب إلى أفلام جيمس بوند. وعلى هذا النحو بدت القسمة عادلة نسبياً لكل ما زرع، من دون أن يعني هذا أن لوكاريه أو غرين أعمق من فليمنغ معرفة بعالم الجواسيس. كل ما في الأمر أن لوكاريه وغرين أديبان كبيران وصادقان. بينما فليمنغ حرفي لامع وظف معرفته العميقة، بعالم الاستخبارات، مضافراً بينها وبين معرفة بأحلام الجمهور، ليطلع بتلك الروايات "الخيالية" التي لا تصدق، ومع هذا أحبها الجمهور وصدقها!
أشرنا أول هذا الكلام إلى أن "كمية من البهجة" (واحد من أفلام بوند الأخيرة) لم يؤلفه إيان فليمنغ، وهذا صحيح، لكنه وضع انطلاقاً من واحدة من أكثر روايات هذا الكاتب قرباً من الواقع، وهي "كازينو رويال"، التي كانت حققت فيلماً جيداً قبل عقود. والفيلم الجديد تبدأ أحداثه مع نهاية أحداث الفيلم السابق. وقد اشتغل كتابه بدقة وتفهم لعالم بوند، إلى درجة أن أحداً لا يكاد يصدق أن فليمنغ الذي مات أوائل الستينيات من القرن الـ 20 عام 1964، أي عند بدايات إنتاج سلسلة الأفلام بـ "دكتور نو" و "من روسيا مع أطيب التحيات"، لم يكن هو كاتب القصة. المهم أن الفيلم الجديد، والنجاح اللافت الذي حققه كانا كافيين لإعادة سينما إيان فليمنغ إلى الواجهة ثلاث مرات من بعده، وهو الذي ولد العام 1908 لأسرة غنية من أصحاب المصارف. لكن الفتى، إذ قتل أبوه في الحرب العالمية الأولى لم يتمكن من الاستمتاع بثروة العائلة، مما اضطره إلى العمل باكراً لإعالة نفسه، بعد أن درس ردحاً في كلية امهرست العسكرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الصحافة إلى التجسس
بعد ذلك نراه يعمل في الصحافة، ما وفر له إمكان الاتصال بعالمي السياسة والاستخبارات، حتى كانت الحرب العالمية الثانية، ووجد نفسه مجنداً في البحرية، خبيراً، بفضل سفراته إلى الاتحاد السوفياتي وغيره، بقضايا العلاقات الدولية والشؤون الاستخباراتية. ومن الواضح أن فليمنغ فيما كان يشتغل مع البحرية الإنجليزية واستخباراتها، بدأ يصيغ في ذهنه شخصية جيمس بوند، وقد حرص على جعل الشخصية ذات دور في الحرب الباردة التي كان قد بات على يقين أنها ستندلع. وهي بالفعل، اندلعت. وما إن اندلعت حتى بدأ كتابه روايات وإصدارها. فصدرت أولا "كازينو رويال" (1953) ثم تتابع الصدور، ليكتمل العدد بالنسبة إلى روايات كتبها فليمنغ وهي 14 رواية، حولت كلها أفلاماً، مضافاً إليها أكثر من نصف دزينة من أعمال ركبت تركيباً انطلاقاً من روايات فليمنغ.
وإذ نقول هذا فلا بد من أن نذكر أن إيان فليمنغ كتب أيضاً كتباً للأطفال ووضع أعمالاً غير روائية، كما أنه كتب نصوصاً لم تنشر لعلنا نذكر منها هنا كتابه الذي وضعه عن الكويت خلال النصف الأول من الستينيات، حين كلفته شركة النفط الكويتية بزيارة الكويت لوضع كتاب عن هذا البلد، لكن الكتاب لم ينشر أبداً لأن الحكومة الكويتية رفضت نشره. وقال فليمنغ يومها إن شركة نفط الكويت، صاحبة المشروع أعجبت بالكتاب لكنها حولته إلى بعض أعضاء الحكومة لإبداء الرأي فرفضوه.
والسؤال الآن: أين هو هذا الكتاب؟ وما الذي رصده فليمنغ فيه؟ وهل كان أم لم يكن مغامرة أخرى لبوند على سواحل الخليج العربي؟ أنط